المدونةسياسي

لماذا انتفض الغرب ضد السعودية بعد اغتيال جمال خاشقجي؟ – د.عبد العزيز غي

 

 

منذ هجوم الحادي عشر من سبتمبر في أميركا، والذي كان خمسة عشر من منفذيه سعوديين، لم يحصل أن وُضعت السعودية في هذا الموقف الهش أمام هجومٍ ضارٍ من جميع الدوائر السياسية والاقتصادية والإعلامية الأوروبية والأمريكية، مثلما حدث بعد جريمة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي بسفارة بلاده في إسطنبول.

الباحث في القضايا الدولية الدكتور عبد العزيز غي، يكشف في تدوينته التي نشرتها منصة الجزيرة دوافع الغرب لعدم الاكتراث بمصالحها الاقتصادية الكبيرة مع السعودية، وانتفاضتها غير المسبوقة ضد حليفها الاستراتيجي القديم.

 

قضية اغتيال جمال خاشقجي أظهرت أنه للمرة الأولى في تاريخ المملكة العربية السعودية تُجمع الدوائر السياسية والاقتصادية والإعلامية الأوروبية والأمريكية ضد السعودية. هذا الإجماع لم يحدث حتى بعد أحداث الحادية عشر من سبتمبر مع أن خمسة عشر من منفذي الهجوم كانو سعوديين. ما الذي حدث؟ مالذي دفع الغرب إلى عدم الاكتراث بمصالحها الاقتصادية الكبيرة وانتفض ضد حليفيها الاستراتيجي القديم؟

هناك جملة عوامل تفسر هذا الانقلاب المفاجئ ويمكن تلخيصه في خيبة الأمل ونفاد الصبر. قد علق الغرب آمالا كبيرة على ولي العهد الجديد وسماه بـ (إم، بي، إس) محاباة وتوددا. وقد بدأت هذه الآمال تتحقق فعلا بعدما أصدرت السلطات السعودية الجديدة، بقيادة “إم، بي، إس” قرارت جوهرية كمنح المرأة حق قيادة السيارة وكبح سطوة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تسمى في الغرب بالشرطة الدينية، وكذلك إيجاد هيئة الترفيه في المملكة وماتلاها من فتح دور السينما والقيام بأنشطة ترفيهية كانت تعد من المنكرات أو المحرمات في الفكر الوهابي المتشدد. وقد تعهّد “إم، بي، إس” بإحلال الوسطية واجتثاث جميع أشكال التشدد الديني من المملكة. كل هذه الاجراءات والتصريحات لقيت قبولا كبيرا في الغرب الذي كان ينظر إلى ولي العهد السعودي كقائد إصلاحي تقدمي.

لكن الحصار المفاجئ لدولة قطر في 5 يونيو 2017 وما تبعه من حملات شيطنة وتلفيقات إعلامية وأمنية لواحدة من أكثر الدول العربية إنفتاحا واهتماما لمواطنيها وضع الغرب في حيرة كبيرة لأن المملكة العربية، الحليف الاستراتيجي للغرب، هي التي تقود دول الحصار. وقد فضّل الغرب عدم الخوض في هذه الأزمة الخليجية آملا أن تجد الأشقاء الخليجيون حلا لهذه المشكلة مع أن الدول الغربية على علم تام بأن هذا الحصار جائر وأن الأدلة التي قدمتها السعودية وباقي الدول لتبرير الحصار زائفة وأحيانا مفبركة.

حتى بعد حصار قطر لم يزل الغرب يعقد آمالا كبيرة على القيادة السعودية الجديدة لكن لم يكن يتوقع بأن هذا الحصار سيستمر إلى يومنا هذا ولم تُبد دول الحصار، بقيادة السعودية، أية نية لإنهاء هذه الأزمة في منطقة الخليج العربي الذي يحرص الغرب على ضمان أمنها للاحتفاظ بمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. بعد الحيرة على حصار قطر بدأ الغرب يشعر بالصدمة بسبب قرارت داخلية اتخذتها السلطات السعودية الجديدة ومن أهمها إلقاء القبض على الناشطين والناشطات في المملكة وما تبعه مؤخرا من إصدار أحكام قاسية بالاعدام على إصلاحيين سعوديين بارزين كسلمان العودة الذي يمثل التيارالاسلامي المعتدل. وقد شكلت هذه القرارات لاسيما احتجاز ناشطات سعوديات في مجال حقوق المرأة، كلوجين الهذلول وإيمان النفجان وعزيزة اليوسف ، صدمة كبيرة في الغرب وخيبة أمل في سياسات ولي العهد السعودي الذي أصبح يعامل شعبه بقسوة بالغة وفي الوقت نفسه يُبدِي صورة القائد الشاب الاصلاحي في الغرب. إن المعاملة القاسية للناشطات السعوديات هي أكثر ما دفع الغرب إلى الخروج عن صمتها لما تشكله قضية المرأة من اهتمام بالغ في الرأي العام الغربي.

ولعل كندا هي أحد الدول التي أخرجت الغرب من صمته عبر وزيرة خارجيتها كريستيا فريلاند والسفارة الكندية في الرياض أوائل أغسطس 2018 منتقدة حملة اعتقالات شملت ناشطات وناشطين سعوديين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة. وكان الرّد السعودي قاسيا جدا حيث تمثّلت في إجراءات عقابية ضد كندا عن طريق طرد سفيرها في الرياض واستدعاء السفير السعودي في كندا للتشاور، إضافة إلى توقف رحلات الطيران المدني السعودي إلى كندا والتبادل الطلابي والطبي واستيراد القمح الكندي. كانت هذه القرارات السعودية تهدف إلى ضغط الحكومة الكندية لتقديم اعتذار رسمي، الأمر الذي رفضه رئيس الوزراء الكندي، كما كانت تهدف إلى ردع الدول الغربية الأخرى عن التعرض لقضايا حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية.

يجدر الإشارة إلى أن هذه الأزمة الدبلوماسية الناشئة من انتقاد سجل حقوق الانسان في المملكة هي الأزمة الثالثة بين السعودية ودول غربية منذ تولي الملك سلمان الحكم في يناير2015. وقد سبقتها الأزمة السعودية لكل من السويد في مارس 2015 وألمانيا في نوفمبر 2017. وقد أدت الأزمتان إلى سحب السفير السعودي والضغط على الدولتين لتقديم اعتذار رسمي وهذا ما قبله السويد ولم يقم به ألمانيا.

وقد أخطأ النظام السعودي حين نظر إلى الدول الغربية كدُول أو كيانات مستقلة بدلا من منظومة سياسية واحدة لها أهدافها الاستراتيجية وسياساتها الموحدة. وقد اعتبرت أوروبا معاملة السعودية لكل من السويد وألمانيا كإهانة للمجموعة الأوروبية كلها، كما اعتبرت الكثير من دوائر صناعة القرار الأمريكي والأوروبي طرد السفير الكندي من الرياض وما تلاه من تصريحات سعودية حادة ضد كندا كسلوك مرفوض لا سيما من نظام يديره فعليا ولي عهد كان الغرب ينظر إليه كالقائد الإصلاحي المستنير الذي يقبل النصيحة وحتى النقد من حلفائه الغربيين.

أضف إلى ذلك أن الدول الغربية لاحظت أن ولي العهد السعودي، الذي عقدت عليه آمالا كبيرة، يقود بلاده باستبدادية مطلقة شطبت كليا هامش الحرية الضيق الذي كان موجودا قبل تولية ولاية العهد واتسمت قيادته للبلاد بسلسلة من انتهاكات حرية التعبير، وحرية التجمع وحتى حرية الصمت، التي طالت أكاديميين ونشطاء سلميين وصحفيين. كما لاحظ الغرب ازدياد عدد السعوديين طالبي اللجوء السياسي في الدول الغربية ومعظمهم شباب وشابات، و كذلك استمرار السعودية في حربها في اليمن رغم اعتراض الكثير من الدوائر الحكومية والحقوقية الغربية لهذه الحرب التي تدمر اليمن وشعبها. وفي ظل هذه الظروف غادر الصحفي السعودي الشهير جمال خاشقجي المملكة إلى أمريكا حيث كتب مقالات عدة في صحيفة واشنطن بوست طالبا احترام حرية التعبير وكافة حقوق الإنسان في بلاده.

 

وقد نفد صبر الدول الغربية من السياسات الخاطئة للقيادة السعودية الجديدة بعد حادثة الاغتيال البشع لجمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول من قبل فرقة موت مكون من 15 سعودي. وهذا الحادث المروع لا يُذكّر الغرب أحداث الحادية عشر من سبتمبر، التي نفذها العدد نفسه (15 سعوديا)، فقط بل يدل دلالة قاطعة على مدى جسارة فرقة الموت، التابعة للجهازالأمني والاستخباراتي السعودي، على خرق القانون الدولي واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الذي يؤدي في النهاية إلى انهيار النظام الدولي بكامله.

فاغتيال خاشقجي هي القشة التي قصمت ظهر البعير حيث يمثل الحلقة الأخيرة من حلقات حيرة وصدمة وخيبة أمل غربية من قرارات خارجية وداخلية اتخذتها القيادة السعودية الجديدة، كالحصار الجائر على دولة قطر والحرب في اليمن والأزمات الدبلوماسية مع ثلاث دول غربية واحتجاز ناشطات وناشطين سعوديين. لم يؤيد الغرب واحدا من هذه الإجراءات السعودية بل فضّل في البداية عدم التحدث عنها لاعتبارات سياسية واقتصادية واستراتيجية لكن بلغ السيل الزبى حينما قتل جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده فانتفض أوروبا وأمريكا ضد السعودية.

ينبغي أن تدفع حادثة اغتيال خاشقجي الحكومة السعودية إلى تغيير جوهري في سياساتها الداخلية والخارجية. على الصعيد الداخلي، يجب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والناشطات السعوديات والسماح بعودة المعارضين السعوديين إلى بلادهم وإطلاق الحريات الفردية والسياسية. وعلى المستوى الخارجي يجب إنهاء حصار قطر والحرب في اليمن فورا. وهذه التغييرات الأساسية هي ما كان جمال خاشقجي يناضل لأجلها ولعل أحسن ما يخلّد ذكراه هو إيجاد نظام سعودي يكفل جميع الحريات.

التدوينات تعبر عن رأئ صاحبها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي المؤسسة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى