أحداث

“وعد بلفور”.. مئة عام من دعم اليهود تُتوَّج بـ”وعد ترامب”

طاولة اللورد بلفور التي كتب عليها الوعد- ويكيبيديا

طاولة اللورد بلفور التي كتب عليها الوعد- ويكيبيديا

في مثل هذا الشهر قبل 101 عامًا (في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917) وقّع وزير خارجيّة المملكة المتحدة آرثر بلفور على وعد بلفور، وهو رسالة مُوَجَّهَةٌ من بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا.

نُشر نص الوعد (أو الإعلان) في الصحافة في 9 نوفمبر/تشرين الثانيّ عام 1917، وبحسبه فإنّ بريطانيا ستدعم إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين (أرض إسرائيل).

بالنسبة للصهيونية، التي أقامت بعد ذلك ما يسمى بـ”دولة إسرائيل” (1948)، كان الوعد اختراقا تاريخيا، وانطلق مع نشره فرح كبير في العالم الصهيوني، إذ كان هذا بمثابة عملية تبني ورعاية للفكرة الصهيونية من قِبل إمبراطورية استعمارية عظمي خارجة من انتصار تاريخي خلال الحرب العالمية.

خلفية تاريخية

بعد إعلان المملكة المتحدة الحرب على الدولة العثمانية في نوفمبر 1914، بدأ مجلس وزراء الحرب البريطانيّ النظر في مستقبل فلسطين. وبحلول أواخر 1917، قبيل إعلان بلفور، وبتوصل الحرب العالميّة الأولى إلى طريق مسدود، إذ لم تشارك حليفتا بريطانيا بالحرب بشكل كامل؛ فالولايات المتحدة لم تعان من ضرر كبير بسبب الحرب، وكان الروس في خضمّ ثورة 1917.

في هذا التوقيت، بدأت أول مفاوضات على مستوىً عالٍ بين البريطانيين والصهيونيِين بمؤتمرٍ أُجري في 7 فبراير من عام 1917، تضمَّن السير مارك سايكس والقيادة الصهيونية. قادت النقاشات التي تلت هذا المؤتمر إلى طلب بلفور في 19 يونيو/حزيران من روتشيلد وحاييم وايزمان لتقديم مشروع إعلان عام. نُوقشت مشاريع واقتراحات أُخرى أبعد من قِبل مجلس وزراء بريطانيا خلال سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول مع مُدخلات صهيونيّة ومُعادية للصهيونيّة، ولكن دون أي تمثيل للسكان المحليين لفلسطين.

أُذن بالإفراج عن الإعلان النهائيّ بحلول 31 أكتوبر/تشرين الأول، وكان لمناقشات مجلس الوزراء هذه فوائد بإطلاق بروباغاندا بين أوساط اليهود حول العالم لنيّة الحلفاء في الحرب.

نص الوعد

عزيزي اللورد روتشيلد..

يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:

“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.

سأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.

المخلص: آرثر جيمس بلفور

أهمية الوعد

مثلت الكلمات الأولى في نص الوعد، أول تعبير عام عن دعم قوة سياسية كبيرة للصهيونية. لم يكن لمصطلح “وطن قومي” (وَرد في نص الإعلان باللغة الإنجليزيّة national home) أي سابقة في القانون الدولي، وقد أُورد المصطلح غامضاً عمداً دون الإشارة إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين. كما لم يتم تحديد حدود فلسطين المعنيّة، وقد أكَّدت الحكومة البريطانيّة أن عبارة “في فلسطين” تشير إلى أن الوطني القومي اليهودي المُشار إليه لم يُقصد أن يُغطي كلَّ فلسطين.

أُضيف الجزء الثاني من الوعد لإرضاء المعارضين لهذه السياسة، ممن ادعَوا أن هذا الإعلان سيضر بوضع السكان المحليِّين لفلسطين وسيشجع معاداة السامية الموجهة ضد اليهود في جميع أنحاء العالم.

اعترفت الحكومة البريطانيّة عام 1939 أنه كان من المفترض أخذ آراء السكان المحليين بعين الاعتبار، واعترفت عام 2017 بأنه كان ينبغي أن يدعو الإعلان لحماية الحقوق السياسيّة للعرب الفلسطينيِّين.

فلسطين قبل الوعد

فلسطين قبل وعد بلفور شيء، وبعده أصبحت شيئاً آخر. كان الفلسطينيون قبل الوعد يملكون وطناً واحداً، ضمن بوتقة اجتماعية وسياسية وجغرافية واحدة، ولكنّ شيئاً لم يعد كما كان، الوجوه تغيّرت كما الأمكنة التي اقتسمت وتغيرت ملامحها زوراً وبهتاناً، ليبقى ملح الأرض ممثلاً برفض الواعد والموعود، هو الشاهد الأبرز على صمود هذا الشعب وأحقيته بوطنه بعد مرور العام الأول بعد المئة عام على مؤامرة بلفور.

تحقق وعد بلفور المشؤوم، وتم تحويل فلسطين إلى «وطن قومي» لليهود. وعلى الرغم من نص قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة إلى دولتين مناصفة، فإن إسرائيل تقوم اليوم على أكثر من 70% من أرض فلسطين التاريخية وتسيطر على البقية بالاحتلال كذلك، وما زال المشروع التدميري والإجلائي الإحلالي يطمع بالمزيد.

الموقف الغربي

وقف الغرب، ورأس المال العالمي، إلى جانب رؤية بلفور، ولم يتوانوا لحظة واحدة عن التشمير لمساعدة إسرائيل بأموالهم وأسلحتهم وإصدار الوعود للتوسع.

لم يقف الغرب ممثلاً بدولة الانتداب البريطانية في البداية بتأمين بعض المتطلبات البشرية واللوجستية والعسكرية والمالية والاقتصادية والقانونية لإقامة الوطن القومي لليهود وحسب، بل فتحوا كل الأبواب المؤصدة للسيطرة على أوسع مساحة من أرض فلسطين.

ومع أن اليهود في ذلك الزمن لم يكونوا بحاجة إلى أرض فلسطين، لأنهم كانوا بالفعل يعيشون في دول ولدوا فيها وينتمون إليها، وتشربوا فيها اللغة والثقافة، ولكن زعماء الدول الرأسمالية أرادوا أن تجري الأمور كذلك، وفي مؤتمر كامبل نبرمان عام 1905/‏‏‏‏ 1907 قرروا وجود «الوطن القومي»، ونفخوا في روح اليهودية، لترتكب محرقة ضد الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب بشكل عام.

آثار بارزة

كان لهذا الوعد آثار طويلة الأمد كثيرة. فقد زاد هذا الوعد من الدعم الشعبيّ للصهيونيّة في أوساط المجتمعات اليهوديّة في أنحاء العالم، وقاد إلى قيام فلسطين الانتدابية، وهو المصطلح الذي يشير حالياً إلى “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية.

وكنتيجة لذلك، فقد تسبَّب هذا الوعد بقيام الصراع العربي الصهيوني، الذي يُشار إليه بأنه أكثر صراعات العالم طولًا وتعقيداً. ولا يزال الجدال فيما يخصّ الوعد قائماً في كثير من النواحي، مثلاً الجدال فيما إذا كان الوعد يتعارض مع الوعود السابقة التي قطعها البريطانيُّون لشريف مكة خلال مراسلات الحسين – مكماهون بمنح العرب استقلالية تامة إذا ما ساعدوهم ضد العثمانيين الأتراك.

أين راح أصحاب الأرض؟

وعلى الرغم من كل هذا الظلم التاريخي المفضوح والمكشوف أمام الأمم، الذي وقع على الشعب الفلسطيني، ونتجت عنه نكبة عام 48 التي شرد نتاجها أهل الأرض الأصليين من وطنهم في مشهد لم يشاهده الصغار إلا في المسلسلات. نحو مليون إنسان فلسطيني خرجوا من ديارهم حفاة، تركوا كل شيء في مكانه على أمل عودة قريبة خلال أيام أو أسابيع معدودة.

مليون لاجئ أصبحوا اليوم قرابة ستة ملايين في أرجاء المعمورة. قبلت القيادة الفلسطينية بالمساومة التاريخية، ليس على أساس قرار التقسيم رقم 181 الأممي، الذي أقرته الشرعية الدولية في 29 نوفمبر 1947، بل على نصف ما تضمنه ذلك القرار، أي إقامة الدولة الفلسطينية على مساحة الـ22% من فلسطين التاريخية وعاصمتها القدس الشرقية، وتقرير المصير عليها غير أن إسرائيل ترفض ما يتناقض مع مشروعها. كما تماهت الإدارة الأميركية الجديدة مع المواقف الإسرائيلية.

وعد ترامب 2018

وبعد 101 عام بالتمام والكمال على وعد بلفور، فإننا قد شهدنا حلقة جديدة من حلقات التمكين للمشروع الصهيوني المحتل بوعد «دونالد ترامب» الذي تضمن إعلان الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها وما تبعه من إجراءات ممارسة النفوذ لدفع دول أخرى لاتخاذ سلوك مماثل، لكن إذا كان المناخ الفلسطيني والعربي والدولي أتاح للغرب تمرير وعد بلفور حينها، فهل سيسمح الآن أيضًا بتمرير وعد ترامب أو ما يطلق عليه صفقة القرن؟!

وأيّا ما يكن، فإن الفلسطينيين قبل وعد بلفور كانوا يملكون وطناً، وبعد الوعد جاء غريب يشاركهم غصبًا وطنهم مساحة وخيرات واقتصاداً وتجارة وسياحة، عابثاً بمقوماته طمعاً ومشروعاً استعمارياً. الفلسطينيون يهبطون حيناً ويصعدون في مقاومته حيناً آخر، والظروف الإقليمية والدولية بين هذا الحين أو ذاك تلعب هي الأخرى دورها، لتبقى فلسطين ميدان صراع تاريخي لإرادات الحق والباطل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى