أحداث

[:ar]23 يوليو.. من بلاط “الملك” إلى دولة “الجنرالات”[:en]July Revolution[:]

ربما هي مصادفة ذات دلالة أن يكون تاريخ سقوط أول دولة ملكية تحكم مصر الإسلامية، هو نفسه تاريخ سقوط آخر نسخة منها.. فقبل قرون، وبالتحديد في 23 يوليو 750م، قُتل الملك الأموي مروان الثاني بن محمد، آخر ملوك الدولة الأموية؛ طاويًا بذلك صفحة آخر ملوك الدولة الملكية الأولى في تاريخ مصر الإسلامي.

تمر السنوات والقرون، ليشهد اليوم نفسه من العام 1952 رحيل آخر ملوك الدولة الملكية العليّة، عقب إطاحة تنظيم “الضباط الأحرار” بالملك فاروق الأول في انقلاب عسكري، ونفيه خارج البلاد، معلنًا بذلك نهاية حكم أسرة محمد علي، وإقامة جمهورية مصر الجارية حتى اليوم.

– إرهاصات البداية:

ظهر تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة اللواء محمد نجيب وقيادة البكباشي جمال عبد الناصر، بعد حرب 1948 التي انتهت بضياع فلسطين وتدشين ما يعرف بدولة “إسرائيل”.

كانت الحالة السياسية والاجتماعية بمصر في أواخر عهد الملك فاروق الأول مضطربة وغير مستقرة، إذ استمر فاروق في تجاهله للأغلبية واعتماده على أحزاب الأقلية، مع نشوب اضطرابات داخلية وصراع بين حركة الإخوان المسلمين وحكومتي النقراشي وعبد الهادي، ثم هزيمة حرب فلسطين، وتوريط الملك للبلاد فيها دون استعداد.

أما عسكريًا، فتم تقليص حجم وحدات الجيش الوطني بعد فرض الحماية البريطانية على مصر وإرسال معظم قواته إلى السودان؛ بحجة المساهمة في إخماد ثورة المهدي، مع إغلاق المدارس البحرية والحربية، وهو ما أوغر صدور عدد كبير من قيادة الجيش المصري.

ورغم استقرار قيمة العملة المصرية عالميًا، إلا أن سوء الحالة الاقتصادية في مصر بدأ في التسارع بشكل كبير، بسبب سياسيات الظلم وفقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب، وسوء توزيع الملكية لثروات الوطن، سيما مع أمارات الانفاق والبذخ الواسع على سكان القصر.

وفي 23 يوليو 1952 قام التنظيم بانقلاب مسلح نجح في السيطرة على المرافق الحيوية في البلاد، وأُجبر الملك فاروق الأول على التنازل عن العرش لولي عهده الأمير الرضيع أحمد فؤاد، ومغادرة البلاد في 26 يوليو 1952.. وأذاع البيان الأول للثورة بصوت عضو التنظيم، أنور السادات، وجاء نصه:

“من اللواء أركان الحرب محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة إلى الشعب المصري.. اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم. وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش وتولى أمره إما جاهل أو خائن أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها.

وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم، ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب. أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب.

وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور، مجرداً من أية غاية وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف؛ لأن هذا ليس في صالح مصر وأن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال. وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس. وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً عنهم والله ولي التوفيق”.

وبعد رحيل فؤاد، شُكّل مجلس وصاية على العرش؛ ثم ألغيت الملكية، وأعلنت الجمهورية في 18 يونيو 1953، وآلت إدارة البلاد إلى مجلس “قيادة الثورة”، المشكّل من 13 ضابطًا من تنظيم الضباط الأحرار برئاسة اللواء أركان حرب، محمد نجيب، وعضوية كل من جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عامر، يوسف صديق، حسين الشافعي، صلاح سالم، جمال سالم، خالد محيي الدين، زكريا محيي الدين، كمال الدين حسين، عبد اللطيف البغدادي، عبد المنعم أمين، محمد أنور السادات، جمال حماد.

– نقطة التحول

كان نجيب يخطط لأن يسلم السلطة إلى قيادة مدنية منتخبة، إلا أن عضو التنظيم الشاب الأكثر طموحًا، جمال عبد الناصر، كان له رأي آخر؛ إذ سرعان ما استولى على مقاليد الأمور، وحدد إقامة محمد نجيب في قصر زينب الوكيل حرم مصطفى النحاس باشا بضاحية المرج شرق القاهرة حتى وفاته، وتولى جمال عبد الناصر حكم مصر حتى وفاته عام 1970، مستمدًا شرعيته مما سُميّ إعلاميا بـ”ثورة” يوليو.

وبتولي عبد الناصر حكم البلاد، دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، فيما بات يعرف بدولة العسكر، إذ توالى حكم قيادات الجيش على البلاد حتى اليوم، بخلاف الرئيس محمد مرسي الذي تولى حكم البلاد عقب ثورة يناير 2011، التي سرعان ما أطاح بها الجيش مجددًا، وأعلن الإطاحة بمرسي في انقلاب 3 يوليو 2013 العسكري، والذي أعقبه تولي قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي رئاسة البلاد عام 2014.

– نتائج الحركة:

إن النظرة المحايدة لنتائج حركة الجيش في الثالث من يوليو 1952 توجب تمييز مرحلتين من تأريخها، إذ يمثل انقضاض عبد الناصر على الحكم علامة فارقة يمكن اعتبارها نقطة تحول كبرى في مسار الحدث المفصلي في تاريخ مصر الحديث.

فقد شهدت الأسابيع الأولى من الثورة قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة، كانت تصب في استرداد الكرامة والاستقلال والحرية المفقودة وعدالة توزيع الثروات، لا سيما مع إصدار قانون الملكية يوم 9 سبتمبر 1952، الذي قضى على الإقطاع وأنزل الملكيات الزراعية من عرشها.

أما اقتصاديا، فضلا عن تمصير وتأميم التجارة والصناعة التي استأثر بها الأجانب، وإلغاء الطبقات بين الشعب المصري، والسماح للفقراء بالعمل قضاة وأساتذة جامعة وسفراء ووزراء وأطباء ومحامين، فقد تغيرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصري، وحررت الحركة الفلاح بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وقضت على السيطرة الرأسمالية في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي، وإن كانت استبدلتها بسياسة شيوعية اشتراكية لا تقل عنها سوءًا.

– النهاية: دولة الجنرالات

وكادت مصر أن تتنفس الصعداء، لولا انقلاب عبد الناصر الذي انصرف لتصفية خصومه السياسيين والعسكريين لتثبيت أقدام حكمه، مستثمرًا زخم “الثورة” في قرارات جماهيرية شعبوية كتأميم قناة السويس وتوقيع اتفاقية الجلاء بعد أربعة وسبعين عاما من الاحتلال الانجليزي لمصر، وبناء حركة قومية عربية يتزعمها.

وقبل موت عبد الناصر 28 سبتمبر 1970 بنوبة قلبية، كانت الحياة السياسية المصرية قد وصلت محطة النهاية، إذ حل الأحزاب السياسية وألغى العمل الحزبي والجماهيري، وأوقع  الإعلام والقضاء والتعليم بقبضة الدولة، وترك البلاد في حالة استسلام للحكم العسكري، الذي توّج جهوده عضو التنظيم محمد أنور السادات بتولي رئاسة البلاد حتى مقتله عام 1981، ليخلفه الرئيس العسكري محمد حسني مبارك، الذي كادت دولة العسكر أن تسقط في عهده إبان ثورة الشعب المصري على فساده في 25 يناير 2011، لولا استعادة الجيش زمام الأمور بانقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي في الثالث من يوليو 2013 على الرئيس المدني الوحيد في تاريخ الجمهورية، محمد مرسي.

وبعد نحو 66 عامًا على حركة الجيش التي أطاحت بملكية فاروق، ما تزال مصر تحت وصاية الحكم العسكري، في ظل تردى الأحوال المعيشية للمصريين بشكل مصاعد، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، سيما مع تبني الجنرال السيسي سياسة أمنية شديدة التربص والإحكام والانغلاق تجاه مؤيديه قبل معارضيه، لتجد مصر نفسها في منزلق أكثر انحدارًا من بواعث حركة الجيش ضد الملك؛ ولتتحول بوصلة نضال المصريين من بلاط “الملك” إلى دولة “الجنرالات”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى