في ظلّ أجواء عالمية مذعورة واتهامات لدول كبرى وأنظمتها بالفشل في مواجهة وباء فيروس كورونا المستجد، أصبح السؤال يتمحور حول الجهود التي بذلتها تركيا في تقوية وتحسين قطاعها الصحي. لكن في هذا الوضع الاستثنائي، تثبت الحالة التركية في هذا المجال أنها مثال يُحتذى، وذلك من خلال سعيها الحثيث لتطوير هذا القطاع، وجعله قادراً على تحدّي الأزمات التي قد تعصف بالبلاد.
افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاثنين 25 مايو 2020، المدينة الطبية في باشاك شهير التي تعد أكبر مجمع طبي في مدينة إسطنبول والثالث على مستوى تركيا، التي تضمّ 6 أبنية أقيمت على مساحة مليون متر مربع، وسوف تقدّم خدماتها الطبيعة لـ23 ألفاً و600 مريض، بعدد أسرة يبلغ 3102 سرير منها 520 للعناية مركزة، و90 غرفة عمليات، و1662 غرفة إقامة. وستعمل هذه المؤسسة الطبية المقامة على مساحة مليون متر مربع في منطقة باشاك شهير غرب إسطنبول بطاقة يمكنها تقديم الخدمة إلى 32700 مريض ومراجع يوميا، وهي مزودة بـ 2640 سريرا. وبدأ العمل في تأسيس هذه المدينة الطبية التي يطلق عليها أيضا اسم “مستشفى مدينة إكيتيلي” عام 2016 وشارك في بنائها نحو 6000 عامل من مختلف قطاعات الهندسة والبناء والتمديد والإنشاءات وغيرها.
قطاع قوي
يتكون القطاع الصحي في تركيا، بطبيعة الحال، من المؤسسات والأبنية الطبية، بالإضافة إلى الأطقم الطبية من أطباء وممرضين وهيئات مساعدة، علاوة على النظام الصحي العامّ للدولة. وكل هذه العناصر عملت الدولة التركية على تنميتها وتطويرها، ليس فقط من خلال زيادة الأعداد والكميات، بل أيضاً من خلال التطوير النوعي للموارد البشرية ورفع كفاءة البنايات والمؤسسات والأنظمة الإدارية.
وقد ظلّ قطاع الصحة على رأس أولويات الحكومة التركية خلال الثماني عشرة سنة الماضية، فزادت إنفاقها العامّ عليه من 18.7 مليار ليرة تركية في عام 2002 إلى 116.7 مليار ليرة عام 2016، ثم خصّصَت نحو 188.6 مليار ليرة (32 مليار دولار) للإنفاق عليه في الموازنة العامة للعام الحالي ، وبذلك تكون الدولة التركية قد رفعت مخصصات القطاع الصحي في الموازنة العامة للدولة من 11.3% في عام 2002 إلى 17.2% في عام 2020، وبالطبع توجهت الزيادات في هذا الإنفاق نحو الجيش الأبيض التركي بمكوناته المختلفة.
وقد زادت أعداد المستشفيات العامة التركية من ألفٍ و156 عام 2002 حتى بلغت ألفاً و 520 مستشفى عام 2016، كما ارتفع عدد الأسرّة في المستشفيات من 164 ألفاً عام 2002، إلى 232 ألفاً في 2017، فيما وصل عدد غرف العناية المركزة في 2017 إلى 36 ألفاً و609 غرف، بعدما كان ألفين و214 غرفة عام 2002. ومؤخراً صرّح وزير الصحة التركي بوجود 100 ألف حجرة جاهزة لتصبح حجرات رعاية مركزة.
مجمعات عملاقة
وقد تَبنَّت الحكومة التركية بناء مجمعات المستشفيات والمدن الطبية العملاقة، التي جعلت تركيا وجهة هامة للسياحة العلاجية من بلدان العالم المختلفة. وبالفعل افتُتح عديد منها خلال السنوات الأخيرة، في مدن تركية مختلفة، وتصل القدرة الاستيعابية لتلك المدن الطبية مجتمعةً إلى 12 ألفاً و100 سرير، وتضمّ ألفين و831 عيادةً، وألفاً و999 سرير عناية مركزة، و410 غرف عمليات، وتستخدم أحدث التقنيات.
ومن بين هذه المجمعات العملاقة المدينة الطبية في ولاية أضنة التي تم افتتاحها في عام 2017، والتي تقدم خدمات علاجية لنحو 16 ألف شخص يوميّاً عبر طاقم عمل مؤلف من 5 آلاف شخص، فضلاً عن احتوائها على ألف و550 سريراً.
وكذلك مستشفى “بيلكنت” في العاصمة أنقرة الذي افتُتح عام 2019، والذي يُعَدّ أكبر مستشفى في أوروبا والثالث على مستوى العالم، إذ يضمّ 3 آلاف و633 سريراً، و131 غرفة عمليات، إضافة إلى 904 عيادات خارجية، كما يتميز بقدرته اليومية على استقبال 30 ألف مريض و8 آلاف حالة طوارئ، وبه أكبر معمل طبي في البلاد، علاوة على منطقتين لهبوط وإقلاع المروحيات.
تقدم كبير
لم يتوقف الأمر عند بناء المستشفيات، فقد توسعت الدولة في بناء الجامعات وركزت على تدشين كليات الطب والتمريض، الأمر الذي ساعدها على رفع عدد الأطباء الأتراك لكل 100 ألف شخص من 138 طبيباً عام 2002 إلى 184 عام 2016.
ومؤخراً صرّح الرئيس التركي قائلاً: “لدينا جيش طبي ضخم يضمّ 165 ألف طبيب و205 آلاف ممرضة و360 ألف موظف مساند”،كما أعلنت الدولة توافر 35 ألف وظيفة جديدة في القطاع الصحي.
كما هيكلت الحكومة التركية نظام التأمين الصحي بشكل كامل، وجعلت مؤسسة واحدة فقط هي المسؤولة عن النظام الصحي في البلاد، ويتيح النظام الجديد استفادة المواطنين والمقيمين من المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية والخاصة من خلال تأمينهم الصحي وفي المجالات والتخصصات كافة.
فضلاً عن نظام الضمان الاجتماعي الذي يمكّن الجميع من الحصول على رعاية صحية مجانية أو منخفضة التكلفة، كما أصبح في كل حي مستوصف خاصّ به، يسمى بمركز العائلة الصحي، يوفّر الرعاية الطبية المبدئية بالمجان للجميع، لا سيما الأطفال والنساء، وكل ذلك تحت إشراف وزارة الصحة التركية.
مواصفات عالية
وترتبط المدينة الطبية الجديدة بشبكة طرق ومواصلات حديثة تتجنب المرور بالأحياء الداخلية المزدحمة وتتصل بشكل مباشر بخطوط النقل السريعة الموصلة إلى مطار إسطنبول الجديد والقناة البحرية الموازية التي توقفت فيها أعمال الإنشاء في ظل تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد مما يعطي فرصة جيدة لوصول سيارات الاسعاف الى الحالات العاجلة في وقت وجيز.
كما ترتبط بخطوط النقل المؤدية لمنطقة الأناضول عبر جسر السلطان ياووز سليم الذي يربط إسطنبول بجوارها الآسيوي، في حين سيتمكن أهالي أحياء المدينة من وصول إلى المستشفى عبر خط قطارات خاص “ميترو” تم تأسيسه لهذا الغرض.
وبحسب وزارة الصحة التركية فإن المدينة الطبية هي أكبر مؤسسة طبية معزولة عن الزلازل في العالم، وقد جرى تزويدها بـ 2040 عازلا زلزاليا يعمل بكفاءة ومواصفات عالية جدا دون توقف حتى في مواجهة الزلازل والهزات الأرضية العنيفة. وقالت الوزارة إن التركيز على تزويد المبنى بنظام مقاومة خاص للزلازل يعود إلى تحسبها من النشاط الزلزالي المرتفع في تركيا وفي مدينة إسطنبول.
تنوع الخدمات
ووفقا لمعطيات وزارة الصحة التركية، فإن المدينة الطبية الجديدة تتألف من ثلاثة مستشفيات، هي المستشفى الرئيسي المزود بـ 2354 سريرا، ومستشفى العلاج الفيزيائي وإعادة التأهيل الذي يحتوي على 200 سرير، ومستشفى الأمراض النفسية الذي يضم 128 سريرا.
ويتكون المستشفى الرئيس من ستة أقسام، هي الطب العام الذي يضم 469 سريرا، وقسم أمراض القلب والأوعية الدموية الذي يتكون من 327 سريرا، وطب الأعصاب وجراحة العظام وفيه 311 سريرا، وقسم طب الأطفال 521 سريرا، والأمراض النسائية وفيه 359 سريرا، وقسم طب الأورام ويضم 367 سريرا.
المستشفى سيشغل أيضا أكثر من 10 آلاف موظف، بينهم 4300 طبيب وممرض وأخصائي من المهن الطبية المساندة، و4050 موظف خدمات و810 موظفين إداريين سيجري التعاقد معهم جميعا من خلال نظام التوظيف الحكومي، في حين ستسند الخدمات الفنية واللوجستية إلى القطاع الخاص.
وجاء انتشار فيروس كورونا في الولايات التركية متسارعاً، ودعم ذلك شفافية الدولة في الإعلان عن حالات الإصابة، والعدد الهائل من الاختبارات اليومية التي تُجريها الدولة للكشف المبكّر، فضلاً عن سياسات وزارة الصحة التركية في التحري عن المخالطين للمصابين وعزلهم، ورغم الأعداد الكبيرة للمصابين لم يرتبك النظام الصحي للبلاد، بفضل القطاع الصحي التركي القوي مما سارع من قدرة الدولة على احتواء الازمة والسيطرة على انتشار الفيروس في وقت سريع.