“لقد انتهت الحرب. لقد صمتت البنادق”.. بهذه الكلمات لخصت الكاتبة الألمانية هيلدغارت تاينرت اللحظات الثقيلة يوم الثامن من مايو عام 1945، قبل أن يعلن المذياع أن الاستسلام غير المشروط للجيش الألماني دخل حيز التنفيذ.. كتبت هيلدغارت هذه السطور في مفكرة زوجها.
وبعد كتابة هذه الأسطر بقليل، قام زوجها، مدرس اللغة اللاتينية يوهانس تاينرت، بإطلاق النار على زوجته أولاً، ثم الانتحار في باحة منزلهما ببلدة غلاتز في منطقة شليزيا السفلى، وهو الأمر نفسه الذي فعله زعيم الحرب، هتلر، ثم فعله كثير من الألمان تباعا، خوفًا من انتقام الحلفاء المنتصرين.
الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها
الاستسلام الألماني جاء عبر وثيقة قانونية تم بموجبها إعلان الهدنة وإنهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، تم توقيعها من جانب ممثلين للقيادة العليا للفيرماخت من جهة، وممثلين عن قوات القيادة العليا لقوات استطلاع الحلفاء والقيادة السوفيتية العليا بالإضافة لنائب عن القوات الفرنسية والذي حضر مراسم التوقيع بصفة شاهد عليه بتاريخ 7 مايو 1945.
تم توقيع الصك نفسه مرة أخرى من جانب ممثلين للأفرع الثلاثة للقوات النازية من جهة وممثلين عن القيادة العليا للجيش الأحمر، وهو الجيش الذي شكله النظام السوفيتي عقب الثورة البلشفية التي قامت عام 1917 على القيصر الروسي وقوامه عشرين مليون من العمال والفلاحين ولقب بالأحمر لدلالته على الدم الثوري، بتاريخ 8 مايو 1945 بحضور ممثلين عن القوات الفرنسية والأمريكية كشهداء على التوقيع.
يُعرف تاريخ 7 مايو 1945 بيوم النصر في أوروبا، في حين يُحتفل بيوم النصر في روسيا والدول السوفيتية السابقة في 8 مايو من كل عام، وذلك لتوقيع صك الاستسلام الألماني بعد منتصف الليل بتوقيت موسكو، كما يُعرف اليوم نفسه في ألمانيا بيوم الاستسلام.
بيان الاستسلام العسكري
«نقر نحن الموقعين أدناه، ممثلين من قبل السلطة للقيادة العليا الألمانية، الاستسلام بموجبه دون قيد أو شرط إلى القيادة العليا لقوات الحلفاء وفي الوقت نفسه إلى القيادة العليا للجيش الاحمر، وذلك لكافة القوات الألمانية على الأرض أو في البحر أو والجو الذين هم في هذا التاريخ تحت السيطرة الألمانية.
إن القيادة العليا الألمانية في توقيت واحد تعلن إصدار أوامر إلى جميع السلطات العسكرية والبحرية والجوية الألمانية وعلى جميع القوى تحت السيطرة الألمانية على وقف عملياتها في الساعة 23.01 بالتوقيت المركزي الأوروبي يوم 8 مايو 1945، والبقاء في جميع المواقع التي كانت تحتلها في ذلك الوقت و القيام بنزع السلاح تماماً، وتسليم الأسلحة والمعدات إلى قادة التحالف المحلي أو موظفين معينين من قبل النواب للأوامر العليا الحلفاء. والإبقاء على كافة السفن والطائرات، والآلات والمعدات، وكذلك إلى الأجهزة بجميع أنواعها والتسليح والأجهزة وكافة الوسائل التقنية المستخدمة حربياً بشكل عام.
إن القيادة العليا الألمانية تعلن بشكل موحد لجميع القادة بضرورة ضمان تنفيذ أي أوامر أخرى صادرة عن القائد الأعلى لقوات الحلفاء ومن قبل القيادة العليا للجيش الأحمر.
هذا الاستسلام العسكري بدون إخلال إلى أي صك عام للإستسلام قد تفرضها الأمم المتحدة او ما ينوب عنها وسيتم حل محلها، والذي ينطبق على ألمانيا والقوات المسلحة الألمانية ككل.
بموجب هذا البيان ففي حال قيام القيادة العليا الألمانية أو أي من القوات الخاضعة لسيطرتها بعدم التحرك وفقا لأحكام هذا الاستسلام، فإن القائد الأعلى لقوات الحلفاء والقيادة العليا العليا للجيش الأحمر اتخاذ أي إجراء عقابي أو غيرها حسب ما تراه مناسبا.
يوجه هذا القرار في اللغات الإنكليزية والروسية والألمانية. ولكن تكون اللغة الإنجليزية والروسية هي النصوص الأصلية فقط»
ألمانيا بعد الاستلام
التوقيع على وثيقة الاستسلام جاء بالاتفاق مع القيصر الألماني آنذاك، كارل دونيتز، الذي أصبح الخليفة الرسمي لهتلر منذ انتحاره في الثلاثين من أبريل من عام التوقيع نفسه، والذي اتخذت حكومته مدينة فلنسبورغ مقراً لها بعد فرارها من برلين.
ونتيجة للاتفاقية، تم تحرير كافة معسكرات الإبادة والاعتقال (معسكرات الإبادة هي المعسكرات ومراكز الاعتقال للتعذيب والإبادة التي أنشأها النظام النازي في ألمانيا والدول التي تحت سيطرتها كبولندا وأشهرها معسكر أوشفيتز في بولندا لليهود والمعارضين السياسيين وغيرهم) بحلول الثامن من مايو من عام التوقيع نفسه. ولكن ما هو مصير أولئك الذين تم تحريرهم منها؟ لقد هام العديد منهم على وجهه في ألمانيا بحثاً عن أقاربهم، بينما بقي آخرون لأسابيع عدة في المعسكرات التي كانوا معتقلين فيها بسبب الإرهاق الشديد. أما في معسكر الإبادة بيرغن بلزن، فقد أقام البريطانيون معسكراً للنازحين والمشردين.
المنتصرون ينتقمون
يصف فلوريان هوبر في كتابه “عدني يا طفل بأنك ستطلق النار على نفسك” أكبر جريمة قتل جماعي في تاريخ ألمانيا. ففي العاصمة برلين، فقد زادت نسبة الانتحار في السنة الأولى بعد انتهاء الحرب بنسبة خمس مرات مقارنة بالسنوات التي سبقتها. ويقول حول ذلك: “لقد قتل الكثيرون أنفسهم، كانوا خائفين مما هو قادم”.
ويورد هوبر أدلة على أنه في بلدة ديمن الصغيرة بمنطقة بومرانيا الغربية وحدها، أقدم ما بين 700 وألف شخص هناك على الانتحار، وذلك بالنظر إلى أن عدد سكان البلدة لم يتجاوز 15 ألف نسمة.
وأيضاً ببلدة غلاتز في شليزيا السفلى، لم يكن المعلم تاينرت وزوجته الوحيدين اللذان أقدما على الانتحار، إذ كتبت هيلدغارت تاينرت في المفكرة، بعد يوم واحد فقط من إعلان انتهاء الحرب وقبيل إطلاق النار عليها من قبل زوجها: “لم تبق إلا لحظات قليلة، وبعدها ينتهي كل شيء .. للأبد”.