لم يكن خافيًا أن تردى الأوضاع الاقتصادية في مصر قبل العام 2011، كان من أهم العوامل التي أدَّت إلى اندلاع الثورة المصرية على نظام دولة مبارك؛ لذلك لم يكن مستغربًا أن يكون المحور الاقتصادي من أول ما يلتفت إليه عند دراسة واقع الثورة المصرية ومآلات الانقلاب عليها في العام 2013، وهو ما أولته الاهتمام دراسة مؤسسة “وعي” للبحث والتنمية التي حملت عنوان (ثورة مصر بين مَسَارَينِ.. المسار الثوري والمسار المضاد له: نماذج مقارنة من عهدي مرسي والسيسي خلال المدة من 2012 – 2016)، حيث تناولت مقارنة تتبعيَّة لعملية صراع المسارين: المسار الثوري، والمسار المضاد له من خلال عهدي مرسي، والسيسي اللذَّين يمثلان مظاهر عملية لِمُخْرَجَاتِ كل مسار.
ولقد اتضح أن مؤشرات النمو الاقتصادي الذي كان يُعْلَنُ عنه باستمرار من قِبَلِ نظام مبارك كان نموًّا زائفًا، فطبقًا لمقياس كريستوف إرهارت /Critophe Ehrhart لسنة 2001 والذي يقيس مدى تمركز وتغلغل الفقر في الاقتصاد، والأثر على حدة الفقر، ومنحنَى نمو الفقر؛ فإن معدَّل الاقتصاد الكلي لمصر في الفترة من 1990 إلى 2004 قد أظهر أن السنوات العشرة الأخيرة في نظام دولة مبارك شهدت تدهورًا كبيرًا؛ حيث أظهرت أن الفقر يتغلغل في الاقتصاد المصري، وأن النمو لا تستفيد منه إلا طبقة السلطة، والطبقة الفاسدة المرتبطة بها، وأنه نمو مُفْقِر وغير عادل، وفي غير صالح الفقراء.
ومع اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير 2011 شهدت إدارة الملف الاقتصادي حالة من الغموض والتخبط استمرارًا للوضع السابق، وقد لاحظ بعض خبراء الاقتصاد أن كثيرًا من المشكلات الاقتصادية التي نتجت بعد الثورة مترتبة على حالة القلق وعدم اليقين بعد الثورة في شأن الاتجاه السياسي للبلاد، وتوقعوا أن يساعد تسليم السلطة لرئيس منتخب في معالجة هذه الحالة، وقد حدث ذلك بالفعل؛ إذ إنه في اليوم التالي لإعلان فوز محمد مرسي بالرئاسة ارتفع مؤشر البورصة بنسبة 7.6%، وهو أكبر ارتفاع تم تسجيله منذ عام 2008.
لكن ومع وقوع الانقلاب العسكري، بدأ الاقتصاد في التهاوي من جديد، ومما تناولته دراسة “وعي” في هذا الجانب، التقرير الصادر عن مجلة الإيكونومست في أغسطس 2015 بعنوان: (خراب مصر) والذي يُعَدُّ من التقارير المُفْزِعَة في توصيف الحالة المصرية عامة، والحالة الاقتصادية خاصة؛ حيث ربط بين القمع وهروب رءوس الأموال، واستشراء الفساد وتجريف الكفاءات، وتأثير ذلك على الاقتصاد المصري في المدى القريب والبعيد، وحذَّرت النظام من التداعيات الخطيرة لاستمرار سياساته، وحتى استمرار السيسي شخصيًّا في الحكم فنصحته بعدم الترشح لمدة أخرى في انتخابات الرئاسة 2018.
وأشارت المجلة إلى أن النظام المصري أهدر مليارات الدولارات على مشاريع وهمية، وأن مصر تعيش على المعونات الاقتصادية القادمة من دول الخليج، ورغم ذلك فإن التدهور الاقتصادي مستمرٌ، وعلى الرغم من مليارات الدولارات من الدول النفطية فإن عجز الميزانية والحساب الجاري للدولة المصرية في اتساع؛ حيث بلغ قرابة 12% و7% على التوالي من إجمالي الناتج المحلي.
وإذا كان احتياطي النقد الأجنبي بنهاية سنة الرئيس مرسي قد بلغ 14.3 مليار دولار فإن نسبة الودائع لدول أجنبية كانت بحدود خمسة مليارات دولار، والباقي موارد ذاتية، بينما شهدت مرحلة ما بعد انقلاب 3 يوليو تغيُّرًا جوهريًّا في هذه المعادلة؛ إذ أصبح الاحتياطي بنسبة 100% من القروض الخارجية، والودائع لدول أجنبية.. وهو أبرز مثال على ما آلت إليه أحوال مصر الاقتصادية بعد الانقلاب.
-
مصر الثورة: محمد مرسي:
أبانت دراسة مؤسسة وعي جهود الرئيس المنتخب محمد مرسي في تشجيع الاستثمار وزيادة التنمية الاقتصادية في جميع أنحاء مصر بعيدًا عن المناطق المركزية في القاهرة والاسكندرية، وأبرزت تخصيص 20% من أراضي الدولة للمشروعات الاستثمارية الصناعية التابعة للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم من خلال توفير الدعم الفني، وبرامج التدريب والتمويل اللازم لها.
وتقول الدراسة إن مشروع محور قناة السويس يُعَدُّ أحد الأمثلة على تحويل الاستثمارات خارج المناطق المركزية، وتوزيعها أفقيًّا على الجغرافيا المصرية، وتوقَّع مجلس الوزراء أن تجذب مصر ما يُقَدَّرُ بنحو مائة مليار دولار أمريكي، وتوفير مليون فرصة عمل من هذا المشروع، إلا أن قيادة الجيش عارضت المشروع بشدَّة؛ حيث أدرك الضباط تهميشهم في هذا المشروع الاقتصادي العملاق؟
وارتفعت ديون مصر الخارجية إلى نحو 45.5 مليار دولار في عهد الرئيس مرسي، بعد أن كانت 34.4 مليار دولار في العام السابق على حكمه، وفي المقابل ارتفع معدَّل النمو الاقتصادي للناتج المحلي من 1.8 % إلى 2.4 %، وبدأت نتائج سعي مرسي لتنمية الاستثمارات لمواجهة المشكلات في الظهور؛ فارتفع إجمالي الاستثمارات التي نُفِّذت من 170.4 إلى 181.4 مليار جنيه، وحصل تحسُّن نوعي في القطاع الزراعي عمومًا، وفي إنتاج القمح خصوصًا، وعملية تخزينه وتسويقه وحمايته من غول الفساد، فانخفض المستورَد منه من الخارج.
وشهد قطاع السياحة في عهد الرئيس مرسي عودة لمعدلاته الطبيعية مع تحسُّن التوقعات بشأن الاستقرار في مصر في النصف الأول من التجربة الديمقراطية؛ حيث تطورت الأحوال في هذا القطاع، وفق تصريح هشام زعزوع وزير السياحة في 1 مايو 2013 “بارتفاع نسبة السياح 17% عن العام السابق، وتوقع أن تصل أعدادهم في نهاية العام إلى 13 مليون سائح، وهي نسبة تقترب من نسبتهم قبل ثورة يناير؛ حيث كان عددهم” 15 مليون سائح”.
-
مصر الانقلاب: عبد الفتاح السيسي
“لن أرفع الدعم إلا لما أغني الناس الأول.. وبكرة تشوفوا مصر.. انتظروا عامين وهتشوفوا العجب.. في خلال شهر هتنزل الأسعار، وزيادة الدولار لن يؤثر عليها.. هعمل شبكة طرق تمسك مصر كده (مشيرًا بقبضة يده)”، هذه بعض وعود وشعارات رفعها قائد الانقلاب العسكري منذ 3 يوليو 2013 وفعل عكسها، إذ شهدت مختلف الأوضاع الاقتصادية والمعيشية تدهورًا كبيرًا منذ وقوع الانقلاب.
وفي حين رفعت ثورة الشعب المصري في 25 يناير شعار “عيش حرية عدالة اجتماعية”، فقد رفع الانقلاب شعارات “كله لازم يدفع” -“صبَّح على مصر بجنيه” – ” أنتوا متعرفوش إن احنا فقرا أوي” – ” دخَّلونا في أمة العَوَز”، وتفاقمت الأزمات المعيشية، وتدهورت مختلف القطاعات الاقتصادية، ومن أمثلة ذلك (2013 – 2016):
– أقدمت حكومة السيسي على دراسة بديلة لمشروع تنمية قناة السويس بعد الانقلاب لعمل تفريعة للقناة بدا من الواضح كارثيتها لخلوها من التنمية الشاملة والمستدامة واعتمادها على النظرة الريعية للقناة، وليس بها أفق للتنمية المستدامة التي تعود بالنفع على المحافظات الخمس الأكثر حاجة للتنمية محافظتي سيناء والسويس والإسماعلية وبور سعيد.
– رفع أسعار الوقود بمختلف أنواعه أكثر من مرة بنسبة 78% في 2014، ثم بنسبة 45% أخرى في شهر نوفمبر 2016، ومن المُتَوَقَّع استمرار الارتفاع، كما رفع أسعار الغاز المنزلي أكثر من مرة بالإضافة إلى مضاعفة أسعار الكهرباء في السنوات الثلاثة التي تلت الانقلاب، وما زالت الزيادات متوالية دون مراعاة حالة الفقراء.
– تدني الأجور، فما لبثت أن تراجعت أول حكومة بعد الانقلاب برئاسة حازم الببلاوي (16 يوليو 2013 إلى 24 فبراير 2014) عن تنفيذ الجداول المُعَدَّة في حكومة هشام قنديل بتطبيق الحد الأدنى للأجور.. وفي المقابل زادت أجور الجيش والشرطة والقضاء أكثر من مرة مع حكومات الانقلاب المتتابعة، كما حصلوا على امتيازات مالية ومكافآت مالية كبيرة قبل كل استحقاق سياسي وبعده، وفي بعض المناسبات الأخرى، وأحيانًا من غير مناسبة!
– تفاقُم البطالة، فاستمرار الاضطرابات الأمنية، وعدم استقرار الأوضاع بعد انقلاب 3 يوليو عزز مزيدًا من تفاقم مشكلة البطالة في مصر؛ حيث أدى إلى تدهور العديد من القطاعات وفي مقدمتها السياحة التي كانت تستوعب 4 ملايين عامل قبل تدهور الأوضاع بشكل كبير ولا سيما بعد إسقاط الطائرة الروسية في سيناء (31 أكتوبر 2015م)، بالإضافة إلى إغلاق مئات المصانع وتراجع مختلف القطاعات.
– تهاوي سعر الصرف للجنيه، فارتفع سعر الدولار إلى معدلات قياسية إذ بلغ قرابة 20 جنيها في نهاية 2016 حتى استقر عند 17 جنيها، أي بنسبة ارتفاع 300% تقريبًا مما عرَّض مختلف القطاعات الاقتصادية لمخاطر كبيرة.
– ديون قياسية: كشف البنك المركزي المصري عن أرقام خطيرة تتعلق بتفاقم مشكلة الدين المحلي والخارجي معًا؛ إذ ارتفع الدَّينُ المحليُّ بنسبة 5.3% خلال أول ثلاثة أشهر للانقلاب (من يوليو إلى سبتمبر) من عام 2013، وصَاحَبَ ذلك قفزة في أعباء خدمة الدَّينِ الخارجي، التي تُمَثِّلُ قيمة الأقساط والفوائد المستحقة عليه بنحو 184.8%، خلال الربع الأول من العام المالي 2016.
يشار إلى أن دراسة “وعي” تهدف إلى التوعية بحقائق الصراع بين مساري الثورة والانقلاب بلغة مبنية على الأرقام والإحصاءات المتعلقة بالحالة المصرية قام بها متخصِّصون في مراكز علمية ودراسات ميدانية وخلاصات للمنظمات الدولية المعتبرة في الاقتصاد والسياسة وحقوق الإنسان وغيرها.
واعتمدت الدراسة على مجموعة من المصادر المتنوعة، والدراسات النظرية والميدانية التي تناولت الحالة المصرية بكافة تفاصيلها خلال مراحل الثورة المختلفة، واشتملت على إحصاءات ومقارنات وتحليلات نقدية لخبراء ومختصين، ومنها التقارير الاقتصادية مثل: تقارير البنك المركزي المصري والبنك الدولي والاتحاد الأوربي ومجلة الإيكونومست، وتقارير وزارة التنمية الإدارية بمصر، والجهاز المركزي للمحاسبات، ومنظمات حقوق الإنسان، وجهاز التعبئة والإحصاء، والتقارير الوثائقية والكتب الدورية، وتحليل الخطابات والبيانات السياسية والاقتصادية الصادرة عن الجهات ذات العلاقة، وغيرها من المصادر.
للحصول على نسختك من دراسة (مصر بين مسارين) (اضغط هنا)