هذه قضية لا يتعلق الأمر فيها بأثيوبيا وحدها، فقد تحولت معركة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لتقليص نفوذ أقلية تيغراي في دواليب الحكم إلى مواجهات مسلحة دامية منذ نحو أسبوعين، امتدت آثارها إلى محيطها الإقليمي القريب. فهل نحن أمام حرب أهلية إقليمية؟ وهل سيطول أمد هذه الحرب؟
إقليم تيغراي، الذي يقع إلى الشمال من إثيوبيا، على الحدود مع إريتريا والسودان، يضم ثالث أكبر عرقية في البلاد بـ7.3 بالمئة (من إجمالي 108 ملايين نسمة)، نحو 60 بالمئة منهم مسيحيون، وبتغراي تقع قرية النجاشي ملك الحبشة الذي لاذ إليه عدد من الصحابة، فرارا من بطش قريش.
ويقع إلى الجنوب من تيغراي، إقليم الأمهرة، الذي يمثل العرقية الثانية في البلاد بـ27 بالمئة، وغالبية سكانه من المسحيين أيضا. أما العرقية الأكبر في البلاد، فهي الأرومو، وسط البلاد، والتي تحتضن العاصمة أديس أبابا، وينتمي إليها رئيس الوزراء، وتقدر نسبتها بـ34.4 بالمئة، والغالبية الساحقة من سكانها مسلمون لكنهم مهمشون.
نقطة التحول
اكتسبت جبهة تحرير شعب تيغراي، ثقلها من دورها الرئيس في إسقاط الحكم العسكري بقيادة منغستو هايلي ماريام (1974 ـ 1991). ومنذ 1991، هيمنت جبهة تحرير تيغراي على الحكم، وسيطرت على المناصب الرئيسة في الدولة وأحكمت قبضتها على الجيش.
لكن في 2018، وقعت اضطرابات في عدة أقاليم وخاصة الأرومو، دفعت رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين، في النهاية إلى الاستقالة، واختار التحالف الحاكم آبي أحمد خليفة له. كان آبي أحمد، أول رئيس وزراء من أغلبية الأرومو، لكنه مسيحي من أب مسلم، وأم مسيحية من الأمهرة، وزوجته أيضا أمهرية مسيحية، فجمع بين أكبر عرقيتين في البلاد.
واستطاع آبي أحمد، في بداية حكمه التصالح مع إريتريا، وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في اتفاق الجزائر، الذي أنهى الحرب بين البلدين (1998-2000)، وحاز بذلك على جائزة نوبل للسلام، في أكتوبر 2019.
مواجهة حتمية
المواجهة كانت حتمية بين رجل قوي، وجبهة متغلغلة في عمق الدولة، خاصة بعدما بدأ آبي أحمد في إزاحة رجال التيغراي، من مناصب سياسية وعسكرية حساسة، واستبدلهم بشخصيات من عرقيات أخرى. كما فتح آبي أحمد، ملفات فساد تورط فيها مسؤولون من التيغراي، خلال العقود الثلاثة التي حكمت فيها الجبهة، والتي اتهمته بتهميشها واستهدافها عبر تحقيقات حول شبهات فساد.
وعندما سعى رئيس الوزراء إلى صهر تحالف الأحزاب الحاكمة الممثلة لعدة أعراق في حزب واحد، رفضت جبهة تحرير تيغراي الانضمام إلى هذا الحزب، والتحق قادتها بإقليمهم، وكان ذلك بداية الطلاق البائن مع آبي أحمد.
لكن النقطة التي أفاضت الكأس، تمثلت في قرار آبي أحمد تأجيل الانتخابات، التي كانت مقررة في 29 أغسطس/آب الماضي، إلى 2021، بسبب فيروس كورونا، وصوت البرلمان لصالح هذا القرار.
لكن جبهة تيغراي، رفضت تأجيل الانتخابات، بل ونظمت في 9 سبتمبر/أيلول انتخابات بالإقليم، لم تعترف بها الحكومة الاتحادية، كما لم تعترف الجبهة بشرعية آبي آحمد، بعد “انتهاء ولايته الرسمية”، لتُقطع بذلك شعرة معاوية.
وعقابا لها، قلصت الحكومة الأموال الفدرالية المخصصة للإقليم، الأمر الذي استفز جبهة تيغراي، واعتبرته بمثابة “عمل حربي”.
لحظة الحرب
وفي 4 نوفمبر الماضي، وصلت الأمور إلى مرحلة اللاعودة، بعد أن اتهمت الحكومة جبهة تيغراي بشن “هجوم خائن” على معسكر للجيش الاتحادي بالإقليم، وهو ما نفته الجبهة، ولكن كان واضحا أن الإقليم أصبح خارج سيطرة الحكومة.
هجوم الجيش الاتحادي تركز على المنطقة الغربية للإقليم المتمرد على الحدود مع السودان، بهدف منع أي تواصل بين “المتمردين” والجارة الغربية، رغم إعلان الخرطوم تأييدها لآبي أحمد. ودفعت شدة المعارك أكثر من 30 ألف شخص إلى النزوح من الإقليم إلى السودان، خاصة بعد وقوع مجازر في حق المدنيين.
لكن جبهة تيغراي، التي تملك أسلحة ثقيلة وربع مليون مقاتل، وتتحصن بجبال منيعة، منعت الجيش الاتحادي من دخول عاصمتها ميكيلي، ما دفع آبي أحمد إلى إقالة قائد الجيش، بعد أربعة أيام من القتال، خاصة وأن كثيرا من قادة فرقه العسكرية من تيغراي.
ولم يكتف آبي أحمد، بترقية نائب قائد الجيش، برهان جولا، إلى قائد، بل عين نائب رئيس الوزراء ديميكي ميكونين وزيرا للخارجية، ونصّب رئيس أمهرة تيميسجين تيرونيه، رئيسا جديدا للمخابرات.
وهذه التغييرات الحساسة في الجيش والمخابرات والخارجية، تعكس رغبة آبي في إنهاء نفوذ التيغراي في الدولة بضربة واحدة. كما استخدم آبي أحمد سلاح الطيران لكسر مقاومة جبهة تحرير التيغراي، وتحييد أسلحتها الثقيلة خاصة المدفعية والصواريخ.
حرب إقليمية
تحالفت أديس أبابا مع أسمرة عاصمة إريتريا، ضد جبهة تحرير شعب تيغراي، التي كان مقاتلوها في الخطوط الأمامية خلال الحرب ضد إريتريا، مما جعل مقاتلي الإقليم محاصرين بين فكي كماشة. وردت جبهة تيغراي بقصف مطار العاصمة الإريترية أسمرة بثلاث صواريخ، لإخراجها من الحرب، دون جدوى.
بينما سيطرت القوات الحكومية على المنطقة الجنوبية للإقليم بالإضافة إلى المنطقة الغربية، ومنح آبي أحمد مهلة ثلاثة أيام للمتمردين من أجل الاستسلام، انتهت في 18 نوفمبر. وقصف الطيران الحكومي عاصمة تيغراي ميكيلي، بينما تقدمت القوات الحكومية نحوها لاجتياحها.
وتوعد آبي أحمد، المتمردين، أنه “بعد انتهاء هذا الموعد النهائي (مهلة ثلاثة أيام)، سيتم الانتهاء من العمل الحاسم النهائي لتطبيق القانون في الأيام المقبلة”. في حين استخدمت جبهة تيغراي الصواريخ لمحاولة ردع الجيش الاتحادي، حيث قصفت مطارين جنوب إقليم تيغراي.
وقتل 34 إثيوبيا في كمين لمجموعة مسلحة مجهولة بإقليم بني شنقول (غرب) الذي يوجد به سد النهضة، على الحدود مع السودان. بالموازاة تجري مناورات جوية مصرية سودانية بإقليم مروي شمالي السودان، كما اتهمت جبهة تيغراي آبي أحمد بقصف الإقليم بطائرات بدون طيار إماراتية متمركزة بمدينة عصب الإريترية.
كل هذه المؤشرات تشير إلى أن الأمور لا تتجه للسيطرة، وتثير استمرار المعارك في تيغراي إلى احتمال اشتعال منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل، واتساع المأساة الإنسانية التي قد تطال ملايين السكان من شمال وغرب إثيوبيا.