أماكن

جبل طارق.. “العرب مروا من هنا”

فوق منطقة صخرية متوغلة في مياه البحر الأبيض المتوسط، في أقصى جنوب شبه جزيرة إيبيريا، يعرف سكان جزيرة تابعة للتاج البريطاني جيدا من هو أمير مدينة طنجة طارق بن زياد، الذي ازدهرت جزيرتهم في عهده حين حكمها في القرن الأول الهجري، ومنها استمدت اسمه إلى اليوم.. إنها منطقة جبل طارق، أو “جبرلتار” كما يسميها أهلها.

تعتبر المنطقة مأهولة بالسكان منذ قديم الأزل ويعتبر الفينيقيون من أوائل الشعوب التي استوطنت في المنطقة حوالي 950 ق-م بعد الفينيقيون أسس الرومان فيها مستوطنة صغيرة استمرت حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية.

بعد ذلك تعاقب على جبرلتار الفاندال ومن ثم جرى ضمها إلى المملكة الإسبانية حتى الفتح الإسلامي في عام 711 ميلادي، وكان قبل العصر الإسلامي يعرف بجبل كالبي.

الفتح الإسلامي

عبر المسلمون في عهد الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي من المغرب بقيادة القائد الأموي طارق بن زياد وذلك عام 711 ميلادي.. وطيلة 4 قرون لم يطرأ أي تعديل عمراني على جبل طارق، ولكن اعتباراً من 1150 ميلاديًا وفي عهد السلطان عبد المؤمن، أحد سلاطين الدولة الموحدية، تم إنشاء مدينة بها، وجرى تحصينها، وما تزال آثار المدينة والسور واضحين في القصر المغاربي الموجود في المدينة.

لاحقاً جرى ضم جبل طارق إلى مملكة غرناطة حتى عام 1309 م حين غزت القوات الإسبانية المدينة هذا الغزو الذي استمر حتى 1333 م ليعاد تحرير المدينة عن طريق قبيلة بني مرين الذين أعادوها بدورهم في 1374 م لمملكة غرناطة التي احتفظت بالمدينة حتى سقوطها نهائياً بيد الإسبان في عام 1492 م لينهي بذلك 750 عاماً من الحكم الإسلامي للمدينة.

العصر الإسباني

بعد استعادة جبل طارق من قبل الإسبان جرى توطين جماعة من اليهود الإسبان المتحولين (أي ممن قاموا بتحويل دينهم من اليهودية إلى المسيحية الكاثوليكية بعد محاكم التفتيش) و قد قام أحدهم ويدعى بيدرو دي هريرا بقيادة 4350، يهودي وعمل على إنشاء دويلة في جبل طارق والتي استمرت لمدة 3 أعوام فقط قبل أن يُعّاد هؤلاء اليهود إلى غرناطة وتُضّم جبل طارق نهائياً للتاج الإسباني.

شهدت الجزيرة في عام 1501، إحدى المعارك البحرية الشهيرة، التي دارت بين الأسطول الهولندي والأسطول الإسباني في عام 1607 وأسفرت عن خسارة إسبانية كامل أسطولها البحري الراسي في جبل طارق خلال 4 ساعات فقط لأن الأسطول الهولندي فاجئ السفن الإسبانية وهي راسية في كونها، وذلك أثناء الحرب الإسبانية ضد الثلاثي الأوروبي، إنجلترا هولندا والنمسا.

السيطرة البريطانية

في أثناء الحرب التي شنتها الدول المتمثلة في إنجلترا هولندا والنمسا من أجل إيقاف تحالف إسباني فرنسي قد يؤثر على ميزان القوى في أوروبا.. وحدّت الدول الثلاثة أساطيلها وقامت بمهاجمة جنوب وغرب إسبانيا وأسفر هجوم حدث في 4 أغسطس 1704، وبعد قصف استمر 6 ساعات، بقيادة الأدميرال جورج روك على رأس قوة مؤلفة من 1800 بحار بريطاني وهولندي أسفر عن سقوط جبرلتار، ووقّعت اتفاقية استسلام سمح بموجبها لسكان المنطقة بالنزوح عنها بسلام.

بالرغم من المحاولات الإسبانية الفرنسية لم تتمكن إسبانيا من استعادة شبه الجزيرة ووقعت في عام 1714 معاهدة أوترخت والتي تخلت بموجبها إسبانيا عن جبرلتار لصالح إنجلترا بشكل مؤبد ودائم وأعلنت السيادة البريطانية على شبه الجزيرة.

عبر التاريخ حاولت إسبانيا استعادة جبرلتار فقامت في عام 1779 بحصار الإقليم بمساعدة المدفعية الفرنسية لمدة استمرت 3 سنوات إلا أن الأسطول البريطاني تمكن من فّك الحصار وإلحاق الخسارة بالقوات الفرنسية-الإسبانية وجرى توقيع اتفاقية سلام بين الأطراف المتنازعة.

النزاع بين بريطانيا وإسبانيا

كانت المنطقة مستعمرة بريطانية حتى 1981 عندما ألغت بريطانيا هذه المكانة وقررت إقامة مناطق حكم ذاتي في ما بقي من مستعمراتها السابقة.

وبعد تغيير طريقة الحكم في منطقة جبل طارق، طالبت إسبانيا بإعادة المنطقة لسيادتها مشيرة إلى أن الاتفاقية بين البلدين تنص بإعادة المنطقة إلى إسبانيا في حال حدوث تنازل بريطاني عنها. أما بريطانيا فأعلنت أنها لم تتنازل عن المنطقة وأن الحكم الذاتي لا يلغي إنتماء المنطقة إلى التاج البريطاني.

مع ذلك وافقت بريطانيا على فتح ميناء جبل الطارق أمام السفن الإسبانية. في غضون السنوات جددت إسبانيا مطالبتها بإعادة جبل طارق للسيادة الإسبانية وحتى تفاوضت مع حكومة بريطانيا عن هذه الإمكانية، ولكن سكان المنطقة رفضوها بقوة وتظاهروا ضدها إذ كان معظمهم بريطانيو الأصل.

أهميتها التاريخية

إنّ جبرلتار وعبر التاريخ كانت واحدة من أهم القواعد البريطانية وقد ازدادت أهميتها مع شق قناة السويس المصرية، مما دفع القوات البريطانية إلى إنشاء قاعدة بحرية فيها وذلك لحماية مصالحها في مياه البحر المتوسط وفي الطريق المؤدي إلى مستعمراتها في الهند وأستراليا.

الثقافة والهوية

جبل طارق هي واحدة من المناطق الأكثر كثافة سكانية في العالم، حيث يقدر عدد سكانها في عام 2011 من 29752، أي ما يعادل حوالي 4959 نسمة لكل كيلومتر مربع (12840 / ميل مربع). ويجري تلبية الطلب المتزايد على المساحات بشكل متزايد من خلال استصلاح الأراضي الصخرية.

وتعكس التركيبة السكانية لجبل طارق العديد من الأوربيين المهاجرين لأسباب اقتصادية وغيرهم من الذين جاءوا إلى الصخرة قبل أكثر من ثلاثمئة سنة، بعد مغادرة السكان الإسبان لها في عام 1704.

واللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في جبل طارق، وتستخدم من قبل الحكومة وفي المدارس. معظم السكان المحليين هم ثنائيي اللغة، حيث يتحدثون الإسبانية أيضاً نظرا لقرب جبل طارق من إسبانيا، لكن تتكون جبل طارق من مزيج متنوع من الجماعات العرقية التي تتواجد هناك، حيث توجد لغات أخرى أيضا كالأمازيغية والعربية في المجتمع المغربي، وكذلك الهندية والسندية في المجتمع الهندي والباكستاني. وهناك اللغة العبرية أيضاً التي يتحدث بها أبناء الجالية اليهودية ويتحدث اللغة المالطية عن طريق بعض العائلات من أصل مالطي. وكذلك اللغة البرتغالية المعروفة على نطاق واسع.

الدين والأيديولوجيات

وفقا لتعداد عام 2012، ما يقرب من 72.1٪ من سكان جبل طارق هي من الروم الكاثوليك. وتشمل الطوائف المسيحية الأخرى لكنيسة إنجلترا (7.7٪)، كما ان 7.1٪ بأنهم لا دين لهم. ويشكل الإسلام (3.6٪) من السكان. والهندوس (2٪)، الديانة اليهودية تمثل 2.4٪ من السكان. وكذلك يوجد 763 شخص ينتمون إلى الديانة البهائية.

في النهاية، مهما تحولت هوية الصخرة وسكانها، ومهما زاد النزاع البريطاني الإسباني عليها، فإن هويتها العربية ستظل ثابتة فيها بحق 750 سنة من الحضور العربي والإسلامي، وبحق اسمها الذي لا يزال يحمل اسم الرجل الذي منحها تلك القيمة الثقافية التي جعلتها مطمعا من القوى الدولية كافة.. إنه طارق بن زياد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى