من الأهمية بمكان التعرف على مقدمات ثورة يناير 2011، ونعني بها المسببات التي أدّت إلى اندلاع ثورة يناير، وتسببت في انفجار الشارع المصري على نحو ما وجدنا في خروج الجموع الحاشدة، وتوحّد غالبية أبناء الشعب، كبارا وصغارا، حتى ما يسمّى بحزب الكنبة، فإنه كان ضد نظام مبارك بكل أخطائه وجرائمه وفساده.
بل يتوجب علينا توسيع الرؤية، كي تنظر إلى مظاهر الخلل في بنية المجتمع المصري، وأداء السلطة الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكيف أنها امتداد لدولة الضباط التي أقيمت منذ يوليو 1952، وتسلطت على مقدرات الشعب المصري، وأغرقت الوطن في مشكلات لا آخر لها، تبدأ من تضخيم البيروقراطية الحكومية، وكبت الإنسان المصري، وتغييب الحريات والمحاسبة والرقابة، وتنتهي بالهزائم الحربية، وهيمنة المنظومة العسكرية والأمنية على تكوين السلطة في مصر. نقول هذا، ونحن بصدد شكل من أشكال الخطاب السياسي السائد في الساحة الفكرية المصرية، ألا وهو الرؤية الناصرية، التي تبدأ وتنتهي من تجربة عبد الناصر بوصفها فكرا ونموذجا، ويتناسون أن النظام الناصري هو أساس للمشكلات التي تعانيها مصر إلى يومنا، لأنه جعل المؤسسة العسكرية هي أساس الحكم، ليس السياسي فقط، وإنما هيمنت المنظومة العسكرية أفرادا واقتصادا وإدارةً على الوطن. كما يتوجب علينا النظر بعناية لحقبة حسني مبارك التي استمرت ثلاثين عاما، وأبرز الثوابت والمتغيرات فيها، لقد كان مبارك والعصبة التي حوله من الثوابت، أما المتغيرات عديدة، تمثلت في المنظومة الإعلامية، وزيادة الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، بجانب تلاقح السلطة مع ذوي الثروة، والذين رأوا ضرورة استمرار مبارك بشخصه، أو بنجله (عملية التوريث)؛ كي تستمر امتيازاتهم، وهو ما يفسر ترديد مبارك وإعلامه لكلمة “الاستقرار” والتي كانت تعني استقراره هو ومن حوله على كرسي الحكم، وأيضا استمرار السلطة من خلال ابنه جمال، بل إن شعار مؤتمر الحزب الوطني في العام 2009، كان “من أجلك أنت”، وطبعا ليس من أجل المواطن البسيط كما ذكر صفوت الشريف وقتئذ([1])، وإنما “من أجلك أنت يا جمال” كما سخر الناس وتندّروا.
جدلية مقدمات ثورة يناير في حقبة مبارك:
لم تكن مقدمات الثورة وليدة العام 2010 السابق عليها، عندما تم تزييف انتخابات مجلس الشعب تزييفا فجا، من قبل مجموعة جمال مبارك، بقيادة أحمد عز، مما أدى إلى حرمان المعارضة بكافة تياراتها (الإسلامية والليبرالية واليسارية) من التمثيل في المجلس، وهو ما رفضه بعض من أنصار النظام نفسه، وكما قال عماد الدين أديب في مقال له، بأن هذا خطأ بيّن، وأن سبب خروج الشعب منذ العام 1952 يعود إلى النهج الاستبدادي الذي تتبعه الأنظمة في مصر، وقال: إنها تلك المعادلة التي إذا ما اجتمعت مكوناتها في حالة ضغط محددة، وسخونة معينة وتوقيت معلوم، ينفجر الوضع الداخلي ويثور الناس ويخرجون على الحكم والحاكم والحكومة وسلطات وسلطان الدولة.. وأن تزوير الانتخابات في عام 2010 أدى إلى ثورة شباب يناير([2])، فعماد أديب من خبرته السياسية ونظرته إلى الأمور، أوقن أن من كان يصرخ تحت قبة مجلس الشعب ويتم احتواؤه؛ حتما سيصرخ في الشارع ويهيّجه.
ولكننا نرى أن الأزمة تتجاوز انتخابات 2010، لأنها تعود إلى الحقبة الناصرية وامتدادها إلى عصر مبارك نفسه، خاصة في سنواته الأخيرة، حيث كان ثالوث الاستبداد والفساد والتوريث هو المتحكم في السلطة، وهو أيضا الشغل الشاغل في أحاديث العامة والخاصة، والقاعدة والنخبة. تلك العوامل التي فصّلها الكثيرون في مقالات وكتب وأبحاث كثيرة، شكّلت تراكما علميا وفكريا ومعلوماتيا؛ يساهم في فهم الأسباب المباشرة لثورة يناير خاصة، وأزمة النظام في مصر الممتدة من العام 1952 عامة، منذ تحول نظام الحكم إلى حكم عسكري شمولي استبدادي، مما أدى إلى خلل هائل في التكوين البنيوي للدولة المصرية، يفصله الباحث الاقتصادي عادل غنيم بأنه -بالإضافة إلى منظومة عبد الناصر الدكتاتورية- بدأت تظهر في النصف الثاني من حقبة الستينيات من القرن العشرين عملية تحلل رأسمالية الدولة الوطنية، بلغت ذروتها في تفسخ الكتلة الحاكمة وانهيار مؤسساتها السياسية والعسكرية نتيجة هزيمة 1967، وصارت الدولة أكبر مؤسسة استهلاكية لا إنتاجية، وباتت معتمدة على القروض الخارجية، وصارت أشبه بالوسيط بين رأس المال المحلي ورأس المال الدولي، مع غياب التنمية الشاملة، صناعيا وزراعيا وعلميا، وعدم تمويل الدولة لمشروعات جديدة، ولا تشجيع الرأسمالية الوطنية، بجانب انتهاجها سياسة القهر والدولة البوليسية([3])، فإنها أزمة بنيوية Structural Crisis في مصر، تعبر عن التناقض التناحري بين الطابع البيروقراطي الاستبدادي لبنية الدولة المؤسسية السياسية، والطابع الاجتماعي لقوى الإنتاج الحديثة، وتناقضه مع متطلبات تعميق التصنيع وإنجاز الثورة العلمية والتكنولوجية وفي مقدمتها الديمقراطية، وهي في جوهرها تحرير الإنسان المصري من الاستغلال والقهر والاغتراب لإطلاق طاقاته الإبداعية، وهذا ناتج عن عجز السلطة عن التصدي لقيادة حقيقية للمجتمع المصري بجميع فئاته وطبقاته، وتتخطاها إلى الفشل في لم شمل الجماعة الوطنية ذاتها([4]).
ومن هنا، يتوجب النظر إلى عوامل تفجر ثورة يناير بكونها ليست صدى مباشر لأخطاء وجرائم ارتكبها نظام مبارك، وإنما الأزمة عفنة البذور، عميقة الجذور، سيئة الثمار. وهو ما يتوجب النظر إليه، ودراسته بتأن، ليس من أجل الخلاف الإيديولوجي الممتد مع الرؤية الناصرية، وإنما من أجل البحث عن حكم رشيد، ومستقبل واعد، ومنظومة نزيهة، تتفق عليها التيارات السياسية وإن اختلفت رؤاها.
الجدير بالذكر في هذا السياق، أن حقبة مبارك توافر فيها هامش من الحريات الإعلامية والأنشطة الحزبية؛ سمح بوجود حركات آراء حرة، وكتابات جريئة، كانت سبيلا للتنفيس عن الاحتقان الشعبي المتزايد، إعمالا بالقاعدة التي سار عليها نظام مبارك وهي: “اصرخ أنت كما تشاء، وأعمل أنا ما أشاء”. انطلاقا من قناعة مفادها الصراخ والصوت العالي كفيل بإنهاء المشكلة، وإخراج ما يؤلم نفسية المواطن، والذي هو حتما سيهدأ، ثم يصمت، ثم ينشغل بشؤون حياته، فإن فكّر المواطن أن يتحرك للتغيير، فإن عصا الأمن الغليظة في انتظاره: ضربا واعتقالا، وقتلا أيضا.
وهذا ما يطلق عليه الباحثون “إيديولوجيا الاحتكار السياسي”، والتي شهدتها مصر خلال الحقبة الناصرية والساداتية أولا، ثم تطورت أكثر في الحقبة المباركية، حيث بدأت بأحادية التنظيم السياسي (الذي كان سائدا أيام عبد الناصر عبر الاتحاد الاشتراكي)، إلى تعددية حزبية وسياسية مقيدة، تمحورت حول شخص الزعيم وشلّته الحاكمة معه في حقبة مبارك. ففي أيام عبد الناصر كان مفهوم المشاركة السياسية يعني تعبئة الجماهير في حزب واحد حول الأهداف القومية والسياسات العامة للنظام كما يضعها التنظيم السياسي الأحادي، بل تم منع مشاركة أي عنصر من الجمهور في الانتخابات إذا كان غير منضم للاتحاد الاشتراكي أو كان ذا توجه مستقل أو معارض، وهو المسار الذي انتهي بالفشل تماما، مع هزيمة يونيو 1967، وأعلن عبد الناصر في بيان 30 مارس فشل إيديولوجية الإجماع السياسي([5]).
جدير بالذكر أن التعددية الحزبية -وإن كانت شكلية- بدأت في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات وليس مبارك، وكانت إحدى وسائل السادات لكسب شعبية والانقلاب على مراكز القوى الناصرية، والسعي إلى إرساء نظام سياسي جديد ينحى نحو المعسكر الغربي، ويمكنه أيضًا من التخلص من النظام الاشتراكي الذي تغول على الحكم في مصر؛ منذ أرساه عبد الناصر، وقد تغلغلت عناصره و قياداته في أجهزة الدولة المختلفة، وشكلت تهديداً على وجود السادات في الحكم. سمح السادات بمنابر ثلاثة هي الوسط واليسار واليمين، ثم تطورت إلى أحزاب: الوطني والتجمع والعمل كما أعيد حزب الوفد إلى الحياة السياسية بحكم قضائي. واستمر هذا الحال في عهد مبارك، فكثرت الأحزاب، وظهرت صحف المعارضة، ولكن ظلت معارضة شكلانية، محدودة الأثر، فيما أطلقوا عليه “ديمقراطية الديكور”.
وقد كان الأنكى في حقبة مبارك تحول منظومة السلطة من الأوتوقراطية وهي حكم الفرد، إلى الأوليجاركية أي هيمنة مجموعة قليلة من الأفراد على عملية صناعة القرار، وصاحب ذلك انسداد شبه كامل في التغيير السياسي، مع انفتاح واستقلالية محدودة في الإعلام والقضاء، دون أن تتم محاسبة أي مسؤول أو وزير، وكان الهدف من كل ذلك تمرير توريث الحكم، عبر شبكة من التحالفات الضيقة حول الرئيس وأسرته نُسِجَت مع جهود دؤوبة لشل قدرة المجتمع على الفعل والتغيير([6]).
وللأسف ربما يتحسر البعض الآن على هذه المساحة الصغيرة من الحرية، التي كان يتيحها نظام مبارك، ويتغنى بها في إعلامه، عند المقارنة مع حال الإعلام في الانقلاب العسكري للسيسي عليها، بعدما قُصِفت الأقلام، وتأمم الإعلام، واحتلت الشاشاتِ وجوه كريهة، تتفنن في التدليس، والتغني بأمجاد زائفة، وشعارات وردية؛ والكل يعلم من رئيس الانقلاب إلى آخر فرد في الوطن أنها ليست فقط كاذبة، وإنما هي دون أرجل ولا أيدي، ولا حتى أصابع، ففقدت وسائل الإعلام مصداقيتها، وهرب الناس إلى قنوات المعارضة، والمواقع الإلكترونية والإذاعات الأجنبية لتعرف الحقيقة.
وهو ما أشارت إليه الكثير من الدراسات والبحوث الإعلامية، حيث شهد قطاع الإعلام في مصر بعد العام 2013 دخول الأجهزة السيادية إلى سوق الإعلام الخاص بأموالها ﻷول مرة مع استخدام رجال أعمال مقربين منها لتكون شركاتهم هي الواجهة الرسمية التي تمتلك المؤسسات الإعلامية، وقد كان تعامل نظام يوليو 2013 مع اﻹعلام سيرا على النهج الناصري فقد كان من أوائل ما اتخذه هذا النظام من إجراءات إغلاق عدد كبير من المؤسسات اﻹعلامية التابعة بشكل مباشر لجماعة اﻹخوان المسلمين وحلفائها فيما يسمى بتحالف الشرعية. هذه الخطوة التي خالفت سلوك السلطة تجاه المؤسسات الإعلامية خلال الفترة السابقة كانت مؤشرا لنهج النظام الجديد تجاه اﻹعلام واستعداده لاستخدام إجراءات جذرية لتحقيق أغراضه التي اتضح مع الوقت أنها لا ترضى بما هو أقل من تغييب أي صوت إلا الصوت الوحيد للنظام نفسه. وقد عمل إعلام الانقلاب العسكري على إيصال رسائل تركز على سيادة الفوضى وانعدام الأمن والتدهور في مناحي الحياة المختلفة واتهام حدث الثورة وما تلاه بأنه سبب الكوارث التي تعيشها البلاد، بل وربطه بصفة أوضح بإصرار المجموعات الثورية على تمديد أمد المواجهة مع الدولة، وهو ما صورته هذه المؤسسات على أنه سعي ﻹسقاط ما بقي من الدولة وليس سعيا ﻹصلاح مؤسساتها([7])، فكان حتما انهيار الإعلام المصري وانحصاره داخل حدود العاصمة.
عبد الحليم قنديل والرؤية الناصرية للتغيير:
يمثل الكاتب الصحفي المصري عبد الحليم قنديل([8]) رؤية معبرة عن الاتجاه الناصري في قراءة الأحداث في مصر، كما يمثل كتابه “الأيام الأخيرة “([9])عنوانا على الظروف التي تسببت في قيام ثورة يناير، ومن خلال المقالات التي جمعها الكتاب بين دفتيه، نجد أبعادا لأزمة مصر الوطن، ومصر السلطة، ومصر المستقبل، عن السنوات الأخيرة في حكم حسني مبارك، حيث الأزمات متلاحقة ومحتدمة، وفي مقدمتها أزمة توريث الحكم لجمال مبارك، وما أثارته من غضب شعبي وسياسي كبير، بجانب تغول رجال المال والأعمال، واستحواذهم على مناصب وزارية مهمة، فيما يسمى تحالف المال والسلطة، وزيادة قمع الداخلية، والارتماء في أحضان الكيان الصهيوني، والتناغم التام مع السياسة الأمريكية، وأجندتها في المنطقة عامة والعراق خاصة، ناهيك عن الفساد الهائل فيما كان يُطلَق عليه حكومة إدارة الفساد، وليست الحكومة الفاسدة، فإدارة الفساد تعني توزيع ثروات الوطن ومقدراته وخيراته ومناقصاته على المنتفعين من أهل الحظوة والقربى، أما الحكومة الفاسدة فهي التي يقتصر فيها الفساد على وزراء الحكومة ومن حولهم.
جلُّ مقالات الكتاب نشرها الكاتب في الصحافة، خاصة جريدة العربي الناصرية والكرامة، ثم جريدة صوت الأمة والتي ترأس تحريرها عام 2008 م ثم في العام 2011م، ومعروف أن الكاتب ناصري في توجهاته السياسية، وهذا معلن في خطاباته وكتاباته المختلفة، وإن اختلف الحال معه الآن مع نظام 3 يوليو 2013م، فقد صار كاتبا سلطويا مقربا من الجيش، منافحا عن المؤسسة العسكرية، مؤيدا لسائر القرارات المتخذة بمصادرة الحريات السياسية والمدنية، وترك السلطة في أيدي العسكريين، قبل أن يختلف ثانية مع نظام السيسي، عندما استبدّ بالسلطة، وقمع المعارضة بكافة أشكالها: اليسارية واليمينية، ولم يجد قنديل مساحة للكتابة والنشر في صحف القاهرة، فعاد يكتب في جريدة القدس العربي اللندنية المعارضة للسيسي، وهذا ما دفعه إلى السجن بعد تأييد محكمة النقض المصرية حكم حبسه ثلاث سنوات مع 19 آخرين، كان منهم الرئيس محمد مرسي (رحمه الله) في القضية المعروفة إعلاميا بإهانة القضاء([10])، ليشاء القدر أن يشرب من نفس الكأس التي حرض عليها انقلاب السيسي 2013، وأن يكون الرئيس مرسي معه في نفس القضية.
يستهل قنديل كتابه بمقدمة حملت عنوان “نهاية مبارك”، تساءل فيها: “هل يحكم الجيش؟ هل يحكم الإخوان؟ هل يحكم جمال مبارك؟ هل من طريق لمرحلة انتقال سلمي من حكم العائلة إلى حكم الشعب؟ كلها أسئلة معلقة برسم نهاية وشيكة لنظام انتهى إلى الإفلاس التام” (ص5). وهنا إشكالية كبرى، فقد تماهى مع الدعوات التي كان يطلقها نظام مبارك نفسه، ويسوّقها في الساحة الدولية بأن البديل لمبارك هم الإخوان المسلمون القوة الإسلامية الراديكالية، عازفا على مشاعر الغرب الخائفة من الإسلام السياسي، أو أن يتولى الجيش الحكم، بما يعني دكتاتورية عسكرية، أو أن يقبلوا استمرار حسني مبارك، إلى أن ينتهي أجله، فيرثه نجله جمال. وبعبارة موجزة يمكن أن نتخيلها على لسان مبارك: إما أنا، أو ابني، أو الإخوان، أو الجيش.
وتناست هذه الأطروحة أن الأمر ليس فيمن يحكم، وإنما في وجود نظام حكم رشيد، نزيه، مؤتمن، يحفظ مقدرات الوطن وحريات الناس، وتكون السلطة ساهرة على حقوق الشعب، وساعتها سيلتف الشعب حولها، ولن توجد أدنى مشكلة في التداول السلمي للسلطة. ولكن السؤال جزء من منظومة التفكير الخطأ التي سادت الساحة السياسية، حيث ينظر إلى أعلى الهرم، وليس إلى قاعدته، وهو جزء من التفكير الناصري ومرجعيته الفكرية تستند إلى القومية العربية والاشتراكية، ولا تبتعد كثيرا عن إيديولوجية حزب البعث في العراق والشام، وأيضا نظام معمر القذافي الدموي، وكلها كما يقرر جرجيس فتح الله تعتمد على استخدام الجيش لإسقاط الأنظمة والحكومات، بروح ثورية، وشعارات قومية واشتراكية، ولكنها في الحقيقة تتحول إلى أنظمة دكتاتورية عسكرية، تنتهي بحكم الفرد المطلق([11]). وللأسف فإن قنديل على الرغم من توصيفه لأزمة نظام الحكم في عهد مبارك بأنه يستند إلى آلة أمنية ضخمة مروعة، وسلوك همجي، وقوانين غابة يضيف إليها مددا من قانون الإرهاب والتزوير وحظر النشر، وبموجة اعتقالات متزايدة، ومحاكم استثنائية. (ص5)، وكلها أوصاف تنطبق على نظام عبد الناصر نفسه، الذي حكم بالحديد والنار وأمات الحياة السياسية، وهي السمات التي غلّفت نظم القومية العربية التي تسلطت على بلداننا، وكما يقرر جرجيس فتح الله فإن نظام عبد الناصر كان قدوتها في القمع والاستبداد، وفي ترسيخ الحكم العسكري، وحكم الحزب الواحد أو الحاكم المطلق الواحد، أو كل نظام استبدادي تحكمي، بحجة أنه النمط الذي اعتاده الشرق الأوسط، وأنه وحده القادر على تحقيق الوحدة العربية. أما الديمقراطية فهي نبتة غريبة عن العرب، ولا يمكن أن تُزرَع حيث تنبت أشواك الطغاة والمستبدين([12])، وها نحن الآن، بعد مرور عقود على حكم البعث في سورية والعراق، والقذافي في ليبيا، نكتشف أن لا قومية عربية تحققت، ولا كرامة ولا عزة جُلِبت، ولا تنمية تحققت، وتحوّل الزعماء القوميون الانقلابيون إلى وحوش على شعوبهم، أما قواتهم العسكرية فقد رأينا أن فوهات مدافعها موجهة إلى الشعوب، وليست إلى الكيان الصهيوني الذي تغنوا وناضلوا في مكبرات الصوت ضده.
وبالعودة إلى كتاب قنديل، فإنه دوما يستدعي التجربة الناصرية في تقييماته لحقبة مبارك والسادات، في دلالة على أنه لم يقرأ النقد المضاد لها، وتلك أزمة الناصريين عامة، ومن شايعهم من القوميين والاشتراكيين، أنهم يعيشون على أمجاد صنعها إعلام زائف، وشعارات خدّرت الوعي الجمعي للجماهير، بدون مراجعة نقدية وتقييمية لها. والدليل على ذلك أن قنديل يرى قرار حرب أكتوبر مأخوذ من أيام عبد الناصر، ولم يكن دور السادات إلا التنفيذ، وأن السادات كان يخدع الشعب بأنه يسير على خطى عبد الناصر(ص10)، وأن تجربة عبد الناصر عبرت بمصر إلى النصر المخطوف في أكتوبر 1973، ثم انقلب السادات على تجربة عبد الناصر(ص87)، وتناسى أن هزيمة 1967 كانت ناتجة عن حماقة عبد الناصر وغروره ونرجسيته، وأنه كان المعتدي أمام العالم، وأن تجربة عبد الناصر غارقة في الدكتاتورية وفساد قيادات الجيش والشرطة، ناهيك عن تحويل مصر إلى دولة الموظفين.
ويظل قنديل غارقا في أمجاد الناصرية، فيرى أنه إذا امتد العمر بعبد الناصر لتحققت الوحدة العربية، ولم يكن تحدث الحروب في الأمة العربية مثل غزو العراق للكويت، والحرب العراقية الإيرانية وغيرها. (ص91). أما قضية الديمقراطية التي غابت عن النظام الناصري فيقول بالنص “هذه خرافة أخرى، وفضيحة عقلية بامتياز، فلا ارتباط شرطيا بين نوع النظم وهزائم الحروب، فدول ديمقراطية هُزمت، ودول ديكتاتورية انتصرت، وهزيمة 1967 كانت هزيمة لسلاح لم يقدر له خوض المعركة أصلا، وكانت هزيمة قيادة عسكرية أصيبت بانفجار في المخ، على حد تعليق عبد الناصر وقتها، ثم أن عبد الناصر تحمّل المسؤولية كلها وحده، وقرر التنحي..، وأطلق عبد الناصر صيحته عن سقوط دولة المخابرات..، وكان عبد الناصر يريد التغيير لـأن الشعب يريده، وفكر في التحول لنظام الحزبين”(ص92، 93).
وهذا لون من التفكير العقيم، لأنه أولا: يراهن على شخص وليس على شعب، وتلك قمة الدكتاتورية الفكرية، وكأن الأمة لم تنجب زعماء غيره، وكأنه قام بنهضة شاملة وتنمية حقيقية، وفي الحقيقية أنه قتل الروح الفردية الاقتصادية والاجتماعية، وأقام -باعتراف الكاتب– دولة المخابرات والسجون والقمع والفساد الإداري والعسكري.
وثانيا: أنه يرى الديمقراطية والحريات ترفا، وليست ضرورة وحق للشعب. وثالثا: أنه يحمل قيادات الجيش مسؤولية الهزيمة، وينسى أنه هو الذي عينهم، وكان على رأسهم صديقه عبد الحكيم عامر، الذي فشل أينما تواجد، وأفشل ما أسموه الوحدة مع سورية، وحوّل الجيش إلى عزبة خاصة به. ورابعا: أن الإدارة السياسية للهزيمة كان وراءها شخصية عبد الناصر المتعالية المستبدة، الذي أراد تحقيق مجد على غرار ما حدث 1956، وهكذا أوهموه، ونسي أن احتلال إسرائيل لسيناء 1956 كان “بروفة” لـ 1967، وكما قال موشيه ديان، عندما سئل عن أن الخطة المطبقة في 1967، هي نفسها المطبقة عام 1956، فردّ بقوله: إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا ينسون. ومن يقصد إلا القيادات السياسية العربية، وعلى رأسهم عبد الناصر، الذي كان بسياساته الخرقاء سببا في كل نكبات الأمة، ناهيك عن تورطه في الصراعات العربية العربية، واستنزاف ثروة مصر وجيشها في حروب اليمن والكونغو انقلاب القذافي وغيره. وخامسا: أنه يريد أن يجعلنا نصدق أن تمثيلية التنحي كانت حقيقية، والقاصي والداني، يعلم أنها كانت لعبة سياسية على شعب عاطفي، بدليل أن المظاهرات التي خرجت كانت يتزعمها ويحمل لافتاتها أعضاء الاتحاد الاشتراكي، أي أنها معدة سابقا، مع سلطة لا تسمح بأي مظاهرة من أي شكل.
هذا، ونجد مقالات الكتاب قد دارت حول محاور عديدة تشمل هجوما على منافقي السلطة، ويرى أن “التوريث مستحيل”، مؤكدا بأنه “لن يرثنا جمال مبارك” (ص31)، وفشل أي محاولات لتلميع الوريث حتى لو كانت بـ “الورنيش النووي” (ص40)، أي محطة الضبعة النووية التي ارتبطت باسم جمال مبارك وتخطيطه للمستقبل.
ويسخر في مقال له بعنوان “التوريث بالتوراة” (ص176) من ظاهرة توريث السلطة عند الرؤساء العرب، حيث يرى أن الملوك يورّثون عادة الأخ أو الابن الأكبر، أما الرؤساء العرب فهم يورّثون الابن الأصغر، فصدام يرغب في توريث “قصي”، وحافظ الأسد ورّث ابنه “بشار” الأصغر بعد مقتل ابنه الأكبر باسل، ونفس الأمر مع مبارك الراغب في توريث جمال الأصغر، وكأنه يوزع تركة مصر: علاء له الاقتصاد، وجمال له السياسة، والشعب يسمع ويطيع. ويربط تلك الظاهرة بما كان يفعله أنبياء بني إسرائيل، عندما كانوا يورثون النبوة في أصغر أبنائهم، بل كانوا يورّثون البركة جيلا فجيلا، على نحو ما ذُكر في التوراة.
كما يستعرض في مقالات أخرى، آفاق/ سيناريوهات المستقبل للسلطة في مصر، والتي ستكون في رأيه بين أفقين “إذا حكم الجيش مصر” (ص59)، أو “إذا حكم الإخوان مصر” (ص69). أو “هل يعترف الإخوان بإسرائيل” (ص77)، وفي المقال الثاني يعلق على حوارات ساسة وباحثين أمريكيين مع قادة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهل يمكنهم الاعتراف بإسرائيل في حالة تسلمهم السلطة؟ وهو ما يناقشه الكاتب، ويرى أن الإخوان أبدوا مرونة في ذلك وأن أية حكومة قد يشارك فيها الإخوان، ستعترف بالاتفاقات السابقة ومنها اتفاقية كامب ديفيد. وهو ما يأخذه الكاتب عليهم، وأنها أقرب إلى الانتهازية السياسية، ولو عاد الزمن بالكاتب للاحظ أن عبد الناصر نفسه لم يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل إلا في مغامرته المجنونة في عام 1967م، و- في الحقيقة – فقد تولى ناصر بنفسه القضاء على كل من يمكن أن يعكر صفو إسرائيل، وسجن من جاهدهم من الإخوان وغيرهم.
ويبدو أن الكاتب كان يقرأ الأحداث مبكرا، فقد حدث ما توقع بالفعل، وتأرجحت السلطة بين حكم الإخوان بوصفهم القوة السياسية الشعبية الأولى في البلاد، قبل أن يتم الانقلاب عليهم من قبل القوة الثانية المتمثلة في الجيش في يونيو 2013م. صحيح أن الكاتب لم يأت بجديد في هذا الصدد، فكثيرة من الدراسات السياسية والمستقبلية كانت تقرأ مستقبل السلطة في مصر في ضوء حقائق القوة على الأرض، فالإخوان لديهم شعبية كبيرة متراكمة، والجيش لديه القوة العسكرية، والسيطرة على مؤسسات ومفاصل الدولة.
وهي السلطة التي رسّخها عبد الناصر في حركة 1952م، حينما استطاع القضاء على مصر الملكية بكل امتداداتها السلطوية والإدارية المدنية وموازين القوة فيها، والتأسيس لحكم الجيش، شأنه في ذلك شأن غالبية دول العالم الثالث، فالجيش المصري وإن توارى عن السياسة في الظاهر خلال حكم السادات ومبارك، إلا أنه كان اللاعب الأساسي من وراء ستار في دعم مؤسسة الرئاسة، وفي المشروعات الاقتصادية التي قام بها، وفي الشخصيات العسكرية التي كانت تجد المناصب المدنية في انتظارها بعد التقاعد، في استمرار لمجتمع ناصر العسكري.
يرصد الكاتب أيضا في مقاله “أيام مبارك الأخيرة” (ص151) حركة مبارك على صعيد السياسة المحلية والخارجية، وكيف تتابعت رحلاته إلى الغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، وإلى الشرق (روسيا والصين)، على أمل أن يجد مناصرين لابنه، من خلال استمطار المشروعات والاستثمارات لهذه الدول في مصر. أما على صعيد السياسة الداخلية، فهو يتوقف أمام حكومة “أحمد نظيف” التي جاءت بضغط من جمال مبارك والدائرة التي حوله، وشملت رجال أعمال من أنصار الخصخصة وصندوق النقد الدولي، والمتمتعين بقروض البنوك، وأراضي الدولة وسائر المزايا الحكومية المخصصة لرجال الحزب الوطني ونجل الرئيس.
كما يرصد في مقالات أخرى، جاءت تحت فصل بعنوان “كارت أحمر للرئيس”، مظاهر التصدع في نظام مبارك، ومنها ما أسماه “دولة الست” (ص174)، مدينا اقتحام السيدة سوزان مبارك حياتنا العامة، عبر إطلالاتها الدائمة في صفحتها الملاكي بجريدة الأهرام تحديدا، ففيها تحركاتها وأنشطتها وما ترعاه من مشروعات، بجانب مجالسها ولقاءاتها الصحفية، وندواتها وأحاديثها، حتى أنه تمنى أن يستيقظ يوما، ويقلب في أية جريدة حكومية ولا يجد – ولو مرة – صورة لها (ص175).
وبالطبع، تلك إشارة مهمة وجريئة من الكاتب، والكل عاش تحوّل صورة سوزان مبارك إلى علامة في قصور الثقافة وإصداراتها المختلفة مثل سلسلة مكتبة الأسرة، وكذلك المستشفيات الحكومية، والمدارس، والمنتديات، في تأكيد على تحول منظومة الحكم في مصر إلى حكم عائلي، والرئيس مبارك مجرد واجهة أو رأس للعائلة، والتي تتفرع ما بين استثمارات الابن الأكبر علاء وطموحاته الاقتصادية، والكل يتحدث عنها في مصر، أو الابن الأصغر جمال وطموحاته السياسية بجانب نشاطه المالي المعروف، وعشق الأم سوزان للكاميرات والإعلام.
هذا، ويبدو جليا في الكتاب توجهه الناصري، الذي يقرأ نظام مبارك بمنطق المقارنة مع نظام عبد الناصر، الذي يتخذه نموذجا للقياس عليه، سياسيا وتنمويا. وكما هو واضح في فصل بعنوان “إلى الناصريين أتحدث” (ص87)، والذي يتخيل في مقال فيه أن عبد الناصر في سن التسعين، ويحكم مصر الآن، بنفس نهجه التنموي والسياسي، وكيف أنه قادر على إخراج مصر من كبوتها.
ويدين في مقال تال ما يطلق عليه “ناصرية الأضرحة” (ص94) ناعيا على الناصريين المتباكين على التجربة الناصرية، ويكتفون باسترجاع الذكريات، موضحا في مقال بعنوان “الحزب الذي نريده في مصر” (ص 101) أهمية وجود حزب ناصري، نواجه به أهل اليمين (الليبراليين وأصحاب السلطة والثروة والحظوة).
وربما تكون مشكلة الكاتب أنه لم يطلع بشكل تفصيلي على ما صدر من تقييمات للتجربة الناصرية بأيدي من شهدوا حركة الضباط الأحرار وانضموا لها، أو ما سطّره الباحثون عن التجربة الناصرية، فلا يزال الكاتب – على عادة الناصريين – يتعامل مع عبد الناصر بوصفه فكرا وزعامة وتجربة ومثالا، ويغض الطرف أو يبرر كوارث ومصائب جرّها حكم الفرد والاستبداد والقمع الذي أقامه عبد الناصر. ويكفي أن نطالع الموسوعة الكبيرة التي سطّرها أحد الضباط الأحرار وهو “أحمد حمروش”، لنرى كيف كانت الدولة تدار أيام “ناصر”، وما ناله أهل الحظوة والثقة من مناصب، وتم التجاوز عن أخطائهم وسوء إدارتهم، مما تسبب في النهاية بكارثة هزيمة 1967م. وكيف تم اغتيال الحياة السياسية، وقتل الزعامات المستقبلية، وبدء هجرة الكفاءات إلى الخارج، وتحويلها إلى دولة الموظفين، وأن التنظيم السياسي الوحيد – الذي يستحضره الكاتب – وهو الاتحاد الاشتراكي كان مزيجا من تداخل السلطة والقوى الجماهيرية، أما قادته فهم عسكريون، وأما حركة أعضائه فهي محكومة بقيود وزارة الداخلية، وأما اجتماعاته وخططه فهي محبوسة في الرزم الورقية ([13])، وتُرك المجال العام للإعلام المتعبد بشخصية الزعيم الملهم.
نلاحظ في الكتاب -أيضا- تكرارا للمعلومات والأفكار، وهذا عائد إلى طبيعة الكتاب التي هي مقالات تم تجميعها، بعدما كُتبت في مناسبات مختلفة، وليست كتابا مكتملا مرتبا في أفكاره. خاصة أن كثيرا من مقالاته ارتبط بالتعليق على حدث أو ظاهرة أو مقال أو خبر في جريدة، وكان يجدر بالكاتب ضرورة تلافي هذه الظاهرة، من خلال مراجعة مقالات الكتاب، واستبعاد المكرر والمتشابه والضعيف.
والأمثلة على التكرار متعددة، ومن أبرزها إلحاحه الدائم على نموذج عبد الناصر في الحكم والتنمية، وهي رؤية أحادية أقرب إلى المثالية، فالتجربة الناصرية عليها الكثير من الملاحظات، وتحفل بجملة لا نهاية لها من الأخطاء، ومن أبرز أخطائها: تأسيس دولة العسكر التي جعلت السلطة في يد الجيش، وقمعت كل الخيارات الديمقراطية والشعبية، وأسست توريث السلطة في أيدي الجنرالات، الذين يأتون بالتبعية بأهل الثقة من ضباط الجيش أو الشرطة أو الأقارب.
وكذلك إعادة سرد معلومات عن مبارك الأب وجمال الابن مرات عديدة في مقالات في بداية الكتاب ونهايته، وكيف تم تعديل الدستور من أجل عيون النجل. وإن كان الكاتب يشير في مقال بعنوان “صدام الأب والابن” (ص186، 187) إلى أن هناك نوعا من توزيع المهام بين مبارك وجمال، فالأب اختص بمهام الأمن أي التكفل بقمع الشعب، ومتابعة أداء وزارة الداخلية، وهو ما أكده الكاتب مقدما في (ص19) حيث يشير إلى تعداد وزارة الداخلية حسب الإحصاءات الرسمية تصل إلى مليون و700 ألف ضابط وجندي ومخبر، بمعدل 37 فردا من الشعب في مقابل رجل أمن، وهو من أعلى المعدلات في العالم، ودال على دولة القمع. أما الابن فهو متكفل بالاقتصاد بحكم خبرته الاقتصادية الكبيرة، التي نالها من عمله في قطاع البنوك والاستثمارات في لندن، ولكن الواقع أن الابن بدأ يتوغل شيئا فشيئا على الأب، وبدأ يتحالف مع حبيب العادلي، في التآمر وتهديد الخصوم، وإبعاد أية منافسة من أية زعامة حزبية أو مستقلة.
أما تكراره لمعلومة أن التنمية في عهد عبد الناصر كانت من أعلى معدلات التنمية في العالم، وقد وصلت إلى ما يقارب 6.5%، وهذا قد حدث بالفعل ويتناسى الكاتب أن تلك النسبة هي نفس ما وصلت إليه معدلات التنمية في آخر سنوات مبارك، وكان الإعلام الحكومي يتغنى بها وبالاحتياطي في البنك المركزي، مع إقرارنا أن سياسة العدالة الاجتماعية بين مبارك وناصر كانت مختلفة بالطبع. كما تناسى الكاتب أن عبد الناصر أنهك الاقتصاد في صراعاته ودمر بعضا من الجيش المصري في اليمن والكونغو، وكان التدمير الكامل للجيش في حرب 1967 التي أبيد فيها ما يزيد عن 100 ألف جندي وتم تدمير سلاح الجو والدفاعات الارضية والمدرعات بالكامل وأضاع سيناء كلها، وأراض لأربع دول عربية أخرى.
ونحن نتساءل: من قال إن القضية منحصرة في معدلات تنمية فقط؟ القضية قضية حريات وإبداع وتعليم وصون كرامة الإنسان والعيش في سعادة، ومنع الاستبداد والقمع، ومحاربة الفساد. وتلك الإشكالية التي تغيب عن خطاب الناصريين، فهم ينظرون إلى الجانب الاقتصادي فقط في تجربة عبد الناصر، وفي سنوات التأميم الأولى، حين انتقلت الملكيات الكبرى للمصانع والمزارع إلى الدولة، وتأسست تبعا لذلك دولة الموظفين، التي إن استمر عبد الناصر في الحكم، سيرى كيف كانت عنوانا للسرقات ونهب المال العام، خاصة أن العسكريين وأهل الثقة هم من تولوا إدارتها بعد تأميمها. لو كانت القضية قضية اقتصاد فقط، لحظي هتلر بالمرتبة الأولى، ولكانت كوريا الشمالية في أعلى الدرجات، ولكنها قضية الإنسان. لقد غلبت على الكاتب ناصريته، وعبّر عن حقيقة غفل عنها الكثيرون وهي أن عبد الناصر هو في الحقيقة الذي أسس لدولة العسكر، وهو ما يبرر تحالف الكاتب وتأييده الأولي للسلطة العسكرية في نظام 3 يوليو 2013، وقد ظن أن تجربة عبد الناصر يمكن استنساخها، ما دام المنقلب السيسي من الجيش، واستدعى إلى الذاكرة الجمعية الشعبية والإعلامية إنجازات مزعومة، وشعارات وأغاني وهتافات. وهو الأمر الذي توقف عنده الكاتب والمفكر فهمي هويدي، وهو يرصد الظاهرة بعد انقلاب السيسي، فيقول: إن الاستدعاء ليس بريئا كما يبدو في ظاهره، أعنى أن الحفاوة السياسية والإعلامية (من إعلام السيسي) ليست اعتزازا بالزعيم الراحل ولا هي لوجه الله، ولكنها من قبيل الدفاع عن الذات في ظروف الأزمة الراهنة من خلال شحذ الذاكرة والتقليب في الأوراق القديمة، إذ في غمار التهويل من خطر المؤامرات الخارجية التي تدبر، والتنديد بحصار مصر وممارسة الضغط عليها، فلا بأس من التلويح باستدعاء الحالة الناصرية، باعتبارها ذريعة تدفع القوى الخارجية إلى تحدى النظام المصري والسعي لإسقاطه”([14])، وما كان الاستدعاء في رأينا إلا لإيصال رسالة واحدة أن المنقلب السيسي لم يخرج عن منظومة عبد الناصر العسكرية القمعية، حيث الشعارات الوردية، والإعلام الواحد، والقمع الأمني، وأن الرسالة للخارج مفادها: إنه نفس النظام المستمر منذ 1952، مع مزيد من التزلف لأمريكا والكيان الصهيوني وتفريط في مقدرات الوطن والأرض والمياه.
[1]) “من أجلك أنت” شعار المؤتمر السادس للحزب الوطني، جريدة اليوم السابع، القاهرة، 19/ 10/ 2009. تاريخ الدخول 20/ 6/ 2020، على هذا الرابط. https://www.youm7.com/story/2009/10/19/%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84%D9%83-%D8%A3%D9%86%D8%AA-%D8%B4%D8%B9%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AF%D8%B3-%D9%84%D9%84%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%89/147185
[2]) كيف ينفجر الوضع الداخلي في مصر؟، عماد الدين أديب، موقع أمد للإعلام، القاهرة، تاريخ الدخول 20/ 6 / 2020. https://www.amadpress.com/index.php/ar/post/144425/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D9%86%D9%81%D8%AC%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B6%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84%D9%89-%D9%81%D9%89-%D9%85%D8%B5%D8%B1
[3]) أزمة الدولة المصرية المعاصرة، عادل غنيم، دار العالم الثالث، القاهرة، 2005، ص72- 75.
[4]) المرجع السابق، ص7 ، 8. وإن كان المؤلف يميل إلى المنظور الاشتراكي، ولكنه شخّص واقع الأزمة في مصر بشكل موضوعي إلى حد كبير، على صعيد الاقتصاد والحريات وطبيعة المنظومة السياسية السلطوية، وهو نقاط ينبغي أن توضع في الحسبان عند تشخيص الأزمة.
[5]) أي مصر نريدها: ما بعد ثورة الحرية.. وسقوط فرعون، مختار شعيب، سلسلة كراسات مصرية، المكتبة الأكاديمية، الدقي، القاهرة، ط1، 2012، ص50، 51.
[6]) المرجع السابق، ص52.
[7]) تفكيك اﻹعلام المصري في عهد السيسي، علي السيد، المعهد المصري للدراسات، أنقرة، 22/ 1/ 2020. تاريخ الدخول 20/ 6/ 2020
[8]) عبد الحليم قنديل (1954م) طبيب وصحفي معارض مصري وهو المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير كفاية ذو اتجاه قومي عربي، محسوب على الحركة الناصرية.
[9]) الأيام الأخيرة، عبد الحليم قنديل، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ط1، 2008م.
[10]) السجن يغيّب مقال الكاتب المصري عبد الحليم قنديل لأول مرة منذ 11 عاماً، تقرير، جريدة القدس العربي، لندن، 21 / 10 / 2018، تاريخ الدخول 20/ 6 / 2020 https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AC%D9%86-%D9%8A%D8%BA%D9%8A%D9%91%D8%A8-%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD/comment-page-1/
[11]) انقلابات ودكتاتوريات عسكرية، في موسوعة نظرات في القومية العربية حتى العام 1970، جرجيس فتح الله، دار آراس للطباعة، ومنشورات الجمل – ألمانيا، الجزء الثالث، ص1234.
[12]) المرجع السابق، ج3، ص1852ـ 1853.
[13]) ثورة 23يوليو، أحمد حمروش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992م، ج1، ص641- وما بعدها.
[14]) ارفعوا أيديكم عن عبدالناصر، فهمي هويدي، جريدة الشروق، 3/ 10/ 2016. تاريخ الدخول 21/ 6/ 2020. https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=03102016&id=bc528272-9296-4244-bdbc-8650b6e49380
وإن كنا نختلف مع هويدي في أنه عدد إنجازات لعبد الناصر نرى أنها ووفقا لمئات الدراسات والبحوث السياسية والتاريخية والاقتصادية كانت ضجيجا إعلاميا، أكثر من واقع متحقق. والمثال على ذلك المؤرخ د. أحمد شلبي في تقييمه للتجربة الناصرية، في كتابه الضخم “ثورة يوليو يوم بيوم”(783 صفحة): حوليات عصر محمد نجيب: الواجهة، وحوليات عصر جمال عبد الناصر: عصر المظالم والهزائم، مكتبة النهضة المصرية، ط3، 1993، وفيه تفصيل عن اتفاقية الجلاء وتنازل عبد الناصر فيها(ص415)، وأنه لم يخرج عن دور مرسوم له أمريكا وسوفيتيا، وفق لتوازن القوى الدولية، أن حقبته كانت: هزائم وآلام ومرارة وتمزق وعصف بكيان الوطن والإنسان. (ص540). أما الميثاق فهو فلسفة ومثالية لم يجد مكانا للتطبيق وإنما تغنٍ به(ص597).