التاريخ عين الأمس التي ترسم الحاضر وتكشف المستقبل.. لكن، كيف يمكن أن نقرأ التاريخ في عصرنا الرقمي الحالي؟ كيف نطوّع كتب التراث لنستخرج ما فيها في قالب يناسب جمهور العصر؟.. المؤرخ محمد إلهامي سلط الضوء على تلك المعضلة في تدوينته التي نشرها بمنصة الجزيرة:
من أكثر الأسئلة التي تردني: أريد أن أقرأ في التاريخ ولكنني سريع الملل، أو: ولكنني أنسى بسرعة ما قرأت، أو: أنني لا أستطيع الاستفادة مما أقرأه في حياتي؟!
الواقع أن المادة التاريخية المقدمة في الكتب لا تناسب الكثير من جمهور القراء الذي يحب الثقافة السريعة أو الوجبات العقلية الخفيفة. وتلك مشكلة تمتد من أول مناهج التدريس الابتدائية حتى المنتجات الثقافية المتخصصة، ولهذا ينصرف الأكثرون عنها ولا يبقى إلا من شغف بها حتى تجاوز عسرها ودخل في الاستمتاع بها. على كل حال فضلت أن أكتب في هذا المقال إجابتي التي تتكرر للأصدقاء والسائلين، فأقول مستعينا بالله:
- لست ممن ينصح بالروايات، مع اعترافي بأن بعضها عميق في وصف النفس البشرية وفي وصف المعضلات الفكرية والشعورية، بل أذكر أن الروائي الإيطالي إيكو (صاحب رواية “الوردة”) تحول إلى الرواية ليستطيع صياغة فكره الفلسفي في ثوب شيق مفهوم، وهو صاحب عبارة: حين يتعطل السرد تبدأ القصة. ومع هذا أقول: الرواية مصنوعة في ذهن مؤلفها، يملك مؤلفها أن يسوقها من البداية إلى الحبكة إلى النهاية، وهو يتصرف فيها تصرف صانع الصلصال، يشكله كيف يحب، ويسوقه كيف يحب.. فهي في النهاية خيالٌ محكي، لا واقعا تنقله الحكاية.
ولا ينبغي أن يبني الإنسان مادة عقله ومشاعره وأفكاره وتصوراته من الخيال والوهم مهما كان يبدو واقعيا، فهذا كالذي والتي أخذت ثقافتها من الأفلام والمسلسلات، وأكثرها -بطبيعة الحال- سطحي ورديء، ولسنا بحاجة أن ندلل على فساد ما صنعته الأفلام والمسلسلات في بيئاتنا العربية من تصورات، خصوصا عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الفقير والغني، وبين الحاكم والمحكوم، وبين المجرم وضابط الشرطة.. هل يمكن أن يكون إنسانا سويا من تكونت ثقافته من تلك المسلسلات والأفلام، مهما كانت جودة حبكتها وحرفية كتابتها؟
- لهذا أنصح من يحبون الروايات ومن يملون من قراءة كتب التاريخ بالبدء بقراءة المذكرات الشخصية، صحيح أن المذكرات الشخصية تشبه الرواية في كونها ثمرة ذاتية لكاتبها، وكاتب المذكرات كالروائي يسوق الحكاية كما يحب ويرغب، قد يضيف وقد يخفي ويكتم، يبرئ نفسه ويبرر لها وربما يعظم من قدره، كما يلقي باللائمة على الآخرين ويحملهم المسؤولية.. هذا صحيح لا شك! ولكن مع هذا يبقى الفارق كبيرا وواضحا. الفارق بين الخيال مهما حاول أن يكون واقعيا، وبين الواقع مهما أضفى عليه صاحبه من خياله! الروائي يصنع روايته من الخيال فهو مطلق التصرف في صياغة أحداثها، بينما صاحب المذكرات محكوم بالوقائع كما كانت واجتهاده في صناعة روايته الشخصية لا يسمح له بالخروج عن إطار الحقيقة.
ربما نستثني من هذا: الروايات التاريخية، فهي محاولة حكاية التاريخ في ثوب قصصي بمعالجة روائية، هي على كل حال خير من الرواية الخيالية المصنوعة في عقل صاحبها من كل وجه، وهي مفيدة في تلمس الحقبة التاريخية بطريقة خفيفة مشوقة، فهي في منتصف الطريق بين الرواية وبين المذكرات الشخصية، ويظل للمذكرات الشخصية فضل اقترابها من الحقيقة والواقع. فمن أولئك: علي أحمد باكثير ونجيب الكيلاني ونجيب محفوظ والمنسي قنديل.. وغيرهم!
- لكن المعضلة هنا أنه ليس كل من كتبوا مذكراتهم كان لهم هذا الأسلوب اللطيف المشوق. هذا صحيح.. ولذلك أنصح بالبدء بقراءة مذكرات الأدباء ومن تمتعوا باللغة الأدبية المشوقة، ولدينا طائفة هائلة من الأدباء الذين كتبوا مذكراتهم فكانت قطعة من المتعة العقلية والنفسية، ففي تلك المذكرات تتحقق أهداف الاستفادة بالتاريخ ووقائعه مع الصياغة اللذيذة.
من أبرز من كتبوا مذكراتهم من الأدباء، حتى ولو لم نوافق على أفكارهم وطريقتهم: طه حسين في (الأيام)، وعلي الطنطاوي في (ذكريات)، وأنور السادات في (البحث عن الذات) فلقد كان يملك أسلوبا أدبيا جميلا، والشيخ عبد الحميد كشك في (قصة أيامي)، وخالد محمد خالد في (قصتي مع الحياة)، وخليل حسن خليل في رباعية (الوسية، الوارثون، السلطنة، الخلاص)، وأحمد فؤاد نجم في (الفاجومي)، ووليد سيف في (الشاهد المشهود).. وغيرهم كثير كثير!
- قريب من المذكرات أيضا كتب الرحلات، لكن يُنتبه إلى أن كتاب الرحلات في العادة يبالغون في وصف ما تعرضوا له من أخطار وأهوال أو من عجائب وغرائب، وفيما عدا هذه الملاحظة تعد كتب الرحلات من المواد التاريخية المفيدة، لا سيما إن كتبها أو ترجمها أديب سلس العبارة.. ويكاد يكون من اليسير أن تجد عن كل بلد في أي زمن كتاب من كتب الرحلة، وكلما اقتربت من الزمن المعاصر كلما زادت المادة المكتوبة غزارة وثراء وتنوعا، بل إن عالمنا الإسلامي منذ مائتي سنة يشهد كثافة هائلة في إنتاج المستشرقين الذين رحلوا إلى بلادنا وكتبوا رحلتهم (بل إن واحدا كالإنجليزي ريتشارد بيرتون أجاد 25 لغة وأربعين لهجة، ورحلته إلى الحج جاءت في ثلاث مجلدات كان الأول منها وصفا ممتازا لمصر في منتصف القرن التاسع عشر)، كما تشهد كثيرا من مادة العرب والمسلمين الذين ذهبوا إلى الغرب وكتبوا رحلاتهم.
- ثم هناك من رزق الموهبة في كتابة التاريخ بأسلوب جميل مشوق، وكثير من هؤلاء صحافيون، ويجري على هؤلاء مثلما يجري على أصحاب المذكرات.. قيمتهم في التاريخ هي قيمتهم من الصدق والكذب، والواقع أن أكثرهم لا يعد في باب أصحاب النزاهة والأمانة، فمن المؤسف أن الصحافة -بطبيعتها، ولا سيما في بلادنا المنكوبة بالاستبداد- يندر أن تخرج النزيه الأمين.. فالقراءة لهؤلاء ينبغي أن تتوخى الحذر في الأخذ عن الصحافيين. فمن هؤلاء: جرجي زيدان وداود بركات وأنيس منصور ومحسن محمد وأمين معلوف وأحمد بهاء الدين وجمال بدوي وصلاح عيسى.. وغيرهم.
- وهناك كتب لا تندرج تحت أي من التصانيف السابقة، ولكنها مع هذا تقدم مادة تاريخية في ثوب ممتع بديع، منها كتاب “حديث عيسى بن هشام” لمحمد المويلحي، فهو من أمتع ما يكون في وصف حال مصر في نهاية القرن التاسع عشر، كتبه على هيئة فن المقامة الأدبية، فقدم صورة شاملة لمجتمعه عبر مجموعة من القصص المسبوكة في رواية واحدة والمزخرفة بدفق ثري من الألفاظ والتراكيب البلاغية المدهشة.. ومنها كتب الأديب الملتهب د. محمد عباس، وكذلك كتب أحمد رائف.
ما يهمني التأكيد عليه في كل هذه الكتب السابقة أنها بداية لمن يريد أن يتعرف على تاريخ الحقبة، فهي تمهيد لا أكثر يُراد منه الوصول بعدها إلى قراءة الكتب المتخصصة فيها بغير ملل منها. ولا ينبغي بحال الاعتماد عليها في تكوين صورة عامة عن الفترة التاريخية. بل وليس معنى إيرادي لاسم هنا أنني أزكي طريقته أو منهجه أو أفكاره.. فقط أتحدث عن جمال لغته وأسلوبه، وأنه قد يستفاد منها في تقريب وتبسيط القارئ المحب للتاريخ وغير القادر على تناول الكتب العلمية مباشرة. بل وأصارحكم بأني ترددت في كتابة هذا المقال لنحو سنة كاملة لخشيتي ألا يؤخذ هذا التأكيد على محمل الجد، فللأسف نحن في عصر سادت فيه الخفة والسطحية حتى إن الشاب حين يقرأ عبارة يطير ليكتبها على الفيس وتويتر ويُكَوِّن حولها قصص وأساطير من نسج خياله.. لكنه في النهاية لن يضر إلا نفسه ومن يستمع له، وعلى كل إنسان أن يتق الله فيما يقول، ويتق الله فيمن يستمع إليه ويأخذ عنه.
- ثم نختم في النهاية بجمع من المؤرخين المحترفين، أو من يقترب منهم في البحث والتعب على مادته، ولم تستطع التقاليد الأكاديمية أن تنتزع منه اللغة الأدبية الجذابة، فمن هؤلاء: حسين مؤنس وأحمد عادل كمال وأحمد أمين وشوقي ضيف ومحمد عبد الله عنان وعبد الرحمن بدوي ومحمد جلال كشك ومحمد قطب وغيرهم.
ثم نسأل الله أن يقيض لنا كتيبة من المؤرخين المحترفين أصحاب الأمانة والنزاهة يتمتعون بالأسلوب الجميل ليكتبوا لنا تاريخا يجمع بين الدقة العلمية ورشاقة الأسلوب.. ثم نسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما.
التدوينة منشورة للمرة الأولى في موقع مدونات الجزيرة
التدوينات تعبر عن رأئ صاحبها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي المؤسسة
[:en]
[:]التاريخ عين الأمس التي ترسم الحاضر وتكشف المستقبل.. لكن، كيف يمكن أن نقرأ التاريخ في عصرنا الرقمي الحالي؟ كيف نطوّع كتب التراث لنستخرج ما فيها في قالب يناسب جمهور العصر؟.. المؤرخ محمد إلهامي سلط الضوء على تلك المعضلة في تدوينته التي نشرها بمنصة الجزيرة: