أعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بتاريخ 20 مايو 2020 خلال اجتماع لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في مقر الرئاسة بمدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة أن “منظمة التحرير ودولة فلسطين قد أصبحتا في حِل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، ومن جميع الالتزامات المترتبة عليها، بما فيها الاتفاقات الأمنية”، مستبقاً قرار إسرائيل ضم ثلث الضفة الغربية بما فيها المستوطنات.
ومنذ العام الماضي، ومع بدء ترويج الإسرائيليين والأمريكيين لما يعرف بـ”صفقة القرن”، هددت السلطة الفلسطينية أكثر من مرة بالانسحاب من هذه الاتفاقات، بما فيها ملف التنسيق الأمني، لكن السؤال الأهم: هل تستطيع السلطة بالفعل الانسحاب من هذه الاتفاقيات الأمنية؟
تاريخ طويل من التنسيق
لتفهم القصة كاملة، يجب أولا أن تعرف ما هو التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، حيث يعد التنسيق جزءاً من ترتيبات الوضع النهائي التي أعلنها اتفاق أوسلو لعام 1993، وما تلاه من اتفاقيات لاحقة كاتفاق طابا 1995، واتفاقية واشنطن في العام ذاته، واتفاقية واي ريفر 1998.
بموجب هذه الاتفاقيات مُنحت إسرائيل الحق كاملاً في ضبط الأمن بالمناطق المشتركة في الضفة الغربية بالتعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية، وتشكيل لجنة مشتركة للإشراف على عمليات الاقتحام أو اعتقال المشتبه بهم في التخطيط، أو تنفيذ عمليات تهدد الأمن الإسرائيلي.
ويأخذ التنسيق الأمني عدة أشكال، من بينها تسيير دوريات مشتركة فلسطينية وإسرائيلية؛ لضمان أمن المناطق الفلسطينية، وملاحقة سلاح المقاومة، واعتقال المشتبه بهم في التخطيط، أو تنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية، واستهداف البنى التحتية لأي نشاط يشكل تهديداً للأمن الإسرائيلي، وإعادة المستوطنين الإسرائيليين الذين يدخلون القرى والضواحي الفلسطينية.
عباس.. مجدد التنسيق
أعلن عباس انسحابه من التنسيق الأمني في القاهرة، لكن بدا وكأنه يتراجع عن موقفه بعد عودته منها، حين أشار في مؤتمر جمعه بقائد جهاز المخابرات العامة اللواء ماجد فرج وقادة الأجهزة الأمنية، إلى أنه “سيُوقف التنسيق الأمني في حال لم تتراجع الإدارة الأمريكية عن طرح صفقة القرن”، وهو ما يشير إلى عدم وجود قرار نهائي يقضي باستمرارية أو وقف العلاقة الأمنية مع إسرائيل.
وسائل إعلام إسرائيلية ذكرت أن السلطة الفلسطينية أبلغت إسرائيل أنها لن توقف التنسيق الأمني معها، لكنها ستقلّصه، فمثلا ستتخلى السلطة عن منع المتظاهرين الفلسطينيين من الوصول إلى نقاط التماس مع الجيش الإسرائيلي، كما كانت تفعل في السابق.
وبحسب وسائل الإعلام، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أرسل رسالة بخط يده إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، هدد فيها بوقف التنسيق الأمني، وتغيير قواعد وأسس التعامل مع إسرائيل بالكامل إذا أقدم على تنفيذ مخطط ضم الأغوار والمستوطنات إلى سيادة إسرائيل.
انسحاب مستحيل
موقع “ميدل إيست آي” نقل عن مسؤولين فلسطينيين بأن تهديد عباس بقطع التعاون الأمني مع إسرائيل يبدو مستحيلاً، لأن وقفه سيؤدي إلى اشتباكات مسلحة بين جنود الاحتلال والشرطة الفلسطينية إن دخلت مناطق السلطة، وهو ما يعني تحقيق فرضية انهيار السلطة في الضفة الغربية.
عضو اللجنة التنفيذية السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية وعضو المجلس المركزي الحالي، عبدالجواد صالح، قال في تصريح صحفي إن “السلطة الفلسطينية تعتبر أن استمرار التنسيق مع إسرائيل هو دورها الرئيسي الذي أُنشئت من أجله، وفي حال مسَّت بهذا الملف فهذا يعني سقوطها، وانهيار حركة فتح، ودفن مشروع التسوية، الذي يعد استراتيجية السلطة الوحيدة المتبقية أمام الطرف الإسرائيلي”.
تاريخ عباس التطبيعي
عبد الجواد صالح أكد ايضاً أن “قرار وقف التنسيق الأمني موضوع على طاولة الرئيس الفلسطيني منذ 2015، وقد حصل على موافقة من مؤسسات منظمة التحرير كافة لتطبيقه، لكنه لا يريد صراحة أن يوقفه”.
ويؤكد صالح أن عباس “يتفاخر في اجتماعات القيادة بأنه متعاون أمنياً مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل مطمئنة لهذا الموقف”، ويدلل على ذلك باجتماعه مع وزراء الخارجية العرب الأخير، حين أبرز عباس علاقته الوثيقة بالمخابرات الأمريكية (سي آي إيه)، وقال إنها راضية عن أداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مكافحة الإرهاب.
إسرائيل مستعدة
عميد كلية العودة للعلوم الأمنية في قطاع غزة، هشام المغاري، علق في تصريح صحفي على إعلان عباس الأخير، بقوله، إن “تهديدات عباس بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل لم تعُد مُجدية، في ظل تحكُّم أطراف ذات مواقع قيادية بالأجهزة الأمنية يتواصلون مباشرة مع نظرائهم الإسرائيليين؛ للإبلاغ عن أي نشاط قد يشكل تهديداً لأمن إسرائيل مقابل”.
المغاري أضاف أن “إسرائيل وضعت عدة سيناريوهات تحسُّباً لأي خطوة فلسطينية مفاجئة، من بينها تطويق الضفة الغربية بألوية عسكرية، وتفكيك مؤسسات السلطة الفلسطينية، وإعادة تفعيل سياسة روابط القرى”.
إسرائيل تتحكم بالسلطة
بلغة الأرقام، تصل قيمة الدعم المالي الأمريكي لأجهزة الأمن الفلسطينية إلى 100 مليون دولار سنوياً، رغم فرض الإدارة الأمريكية حصاراً مالياً على السلطة منذ 2017، تركز على تمويل البرامج التشغيلية المخصصة لقطاع البنى التحتية في فلسطين والأونروا وموازنة السلطة، إلا أن الدعم الأمريكي لأجهزة الأمن لم يتوقف.
لهذا يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح الفلسطينية، عبدالستار قاسم، في تصريح صحفي لموقع عربي بوست أن “استخدام عباس ورقة وقف التنسيق الأمني محاولةٌ لذرِّ الرماد في العيون، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته بممارسة ضغط على إسرائيل لوقف تطبيق صفقة القرن، والتخويف بأن وقف التنسيق الأمني ستكون تبعاته كارثية على مستوى استقرار المنطقة”.
وبشكل عام، لا تخفي السلطة مخاوفها من أن يؤدي وقف التنسيق الأمني إلى أحداث قد يستغلها منافسوها، خصوصاً “حماس”، التي تتهيأ لفرصة سانحة تمكّنها من إعادة تفعيل كوادرها المسلحة في الضفة؛ لتنفيذ هجمات ضد أهداف إسرائيلية، على غرار قوتها العسكرية الفعالة والمزعجة لإسرائيل في قطاع غزة.