نشر مركز الجزيرة للدراسات تقريرا بحثيًا فريدًا للأكاديمي محمد الأمين موسى، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة قطر، بعنوان (محددات تغطية الفضائيات الإخبارية لجائحة كورونا في عصر الرقمنة)، قدّم ملخصًا لاستراتيجيات وأساليب التغطية الإخبارية لجائحة كورونا في بعض الفضائيات الإخبارية، وبحث في محدداتها بالتعامل مع الأزمة التي خلقها انتشار الوباء، ودرس أهمية الإعلام الصحي الفعَّال ودوره في تجنيب البشرية ويلات الجوائح والأوبئة.
مؤسسة وعي للبحث والتنمية تقدم تلخيصا لأبرز ما جاء بالتقرير البحثي المنشور بتاريخ التاسع من أبريل 2020 (ويمكن الاطلاع عليه كاملا من هنا)، والتي جاءت في خضم الجائحة بعد أشهر من انطلاقها كوباء تفشَّى في إقليم هوبي الصيني لتواكب أسابيع من تغطية الفضائيات الإخبارية لها خلال عام 2020، وفي الوقت الذي يُفترض أن تكون وسائل الإعلام قد قامت بدورها في تثقيف المتلقي بكافة الأمور الصحية ليكون مستعدًّا -معرفيًّا ومهاريًّا- للتعاطي مع أية أزمة صحية.
الجائحة.. تحدٍ جديد
تنطلق الدراسة من جائحة كورونا للنظر في كيفية تعاطي الإعلام مع الأزمات العالمية في عصر رقمي تتدفق فيه المعرفة بوتيرة لم يشهدها العالم من قبل. وتلاحظ أن هذه الأزمة كشفت الثقوب التي تعتري جسد العمل الإعلامي الذي رسَّخ أولويات تجعل السياسي يتصدَّر الاقتصادي والاجتماعي والصحي.
وترى أن التحديات التي واجهتها البشرية في صراعها المستدام للحفاظ على استمرارية الحياة، من خلال مكافحة الأمراض وتجنب الأوبئة والجوائح، تستحق جهدًا تواصليًّا إعلاميًّا أكثر فعالية، تجنبًا لتكرار المآسي الناتجة عن الاستهانة بالمعرفة الإنسانية المتراكمة التي يندر أن تجد طريقها إلى التغطية الإعلامية.
ومن خلال الملاحظة الاستكشافية للشبكة البرامجية لبعض القنوات الفضائية الإخبارية، رصدت الدراسة قلَّة اهتمامها بالبرامج والأخبار التي تتناول صحة الإنسان باعتبارها أساس كافة الأنشطة، لأن ترتيب الأولويات لدى تلك القنوات لا يشمل العناية بالصحة وتثقيف الإنسان حتى يحافظ على نعمة الصحة والعافية وينطلق منها إلى تحقيق التطور والتنمية المستدامة.
إشكالية الدراسة
في هذا السياق، تحاول الدراسة استكشاف المحددات التي تقوم عليها تغطية القنوات الفضائية الإخبارية -باعتبارها في مقدمة الإعلام الجماهيري واسع الانتشار- لجائحة كورونا، وقد لاحظ الباحث أن هذه التغطية يطغى عليها الجانب الكمي والتناول التثقيفي، وكأن هذه القنوات تعمل من خارج سياق هذه الجائحة ولا تتأثر بها، بل ترصدها مثلها مثل كافة الأحداث التي تتصدَّر الأجندة الإعلامية.
وتكتمل الإشكالية بإغراق المشهد الإعلامي من لدن رواد الإعلام الجديد الذين وجدوا في شبكة الويب بصفة عامة، وشبكات التواصل الاجتماعي بصفة خاصة، فضاءات رحبة لإلقاء الرسائل التواصلية المتعلقة بجائحة كورونا، والتي يختلط فيها الغَثُّ بالسمين لينعكس الأمر على سلوك الناس خبطًا عشوائيًّا وتداولًا لمعرفة غير علمية لا يتسع المقام لنقدها وتقويمها.
ومن بين مجتمع الفضائيات الإخبارية اختار الباحث عيِّنة قصدية تشمل أربع قنوات، وهي: قناة “سي إن إن” (CNN)، و”فوكس نيوز” (Fox News) الأميركيتين؛ وقناة “العربية”، وقناة “سكاي نيوز عربية”. ويأتي اختيار هذه القنوات، لكونها قنوات تليفزيونية إخبارية تتوفر على إمكانيات (مالية وبشرية) تجعلها تُبَثُّ على نطاق واسع وتخاطب جمهورًا ينتشر في شتى بقاع العالم، وهذا يتلاءم مع طبيعة جائحة فيروس كورونا.
واقع الإعلام الصحي
في إطار المدخل النظري الذي يُؤَسِّس لفهم علاقة الإعلام بالأزمات والأدوار الإخبارية والتعليمية والإقناعية المنوطة بوسائله لاحتواء آثارها وتداعياتها، لاحظ الباحث أن هناك مفارقة كبرى تتعلق بإعلام الأزمات فيما يخص النظرية والتطبيق.
فعلى المستوى النظري، يمكن تعريف إعلام الأزمة بأنه “الممارسة الإعلامية الملازمة لتخليق الأزمة، والهادفة إلى الحيلولة دون اكتمالها، من خلال نشر الرسائل الإعلامية الهادفة إلى التثقيف والتوعية بمخاطرها وشرح السيناريوهات الكفيلة بتفاديها”. بينما تبدو الممارسة الفعلية لإعلام الأزمات في شكل “تغطية صحافية مواكبة للأزمات ومراحل تطورها وآثارها على الجهات المستهدفة”.
إعلام الأزمة -نظريًّا- هو ممارسة وقائية مستدامة تتغيَّا تربية المتلقين على تفادي وقوع الأزمات عبر الممارسات السليمة، بالإضافة إلى حسن التصرف عندما تحلُّ أزمة خارجة عن السيطرة. بينما إعلام الأزمة الفعلي -كما يبدو في الممارسة ويتجلى الآن في أزمة كورونا- يبدو أكثر تخبطًا وهو يلهث وراء تغطية الأزمة بغرض التقليل من أضرارها ويختفي باختفائها إلى أن تحلَّ أزمة جديدة، وهكذا دواليك.
وهنا، تتجسَّد أزمة إعلام الأزمات في التعامل مع الأزمات باعتبارها أحداثًا عادية تتم تغطيتها أثناء أو بعد حدوثها، أو باعتبارها ظواهر تستوجب التغطية بعد أن تتشكَّل وتظهر وتستفحل، فتكون الحصيلة ملازمة للأزمة والصيرورة جزءًا منها. وهذا يتناقض مع الدور التواصلي الطليعي للإعلام، أو على الأقل يحجِّمه في زمن تمر فيه المعرفة الإنسانية بمأزق الفوضى الناتجة عن سهولة الإلقاء واختلاط الأخبار الصحيحة بالأخبار الكاذبة والإشاعات، وامتزاج العلم الحقيقي بالعلم الزائف.
قصور لافت
يُفسِّر الباحث هذا القصور بأن الإعلام الصحي الفعَّال ليس مجرد أخبار عن اكتشافات دوائية أو نجاحات في اختراع أجهزة طبية أو نقلات نوعية في مجال الجراحة، بل هو اشتغال يومي مستدام في التوعية والتثقيف الصحيين والتربية الصحية القائمة على حسن الطعام وحسن الحفاظ على البيئة وحسن تأهيل الجسد واستخدامه في الأنشطة المختلفة، فضلًا عن التخلي عن العادات الضارة بالجسد والنفس والمجتمع.
ولا تحتاج فعالية الإعلام الصحي سوى إدراك أهميته وخطورة غيابه والاتعاظ بتجارب الماضي واستيعاب اقتصاديات الصحة التي تفوق أي اقتصاديات: فلا اقتصاد عند موت الإنسان أو عجزه عن العمل (والإجراءات التي اتخذتها جلُّ دول العالم والتي قضت بالعزل الصحي وتوقف عجلة الاقتصاد بسبب تفشي فيروس كورونا، خير مثال على أثر الصحة في الاقتصاد).
جوانب القصور
ترى الدراسة أن تحديات الأزمات وتداعياتها، التي قد تشلُّ الحياة، تفرض على وسائل الإعلام التقليدية-المتجددة إعادة النظر في المحددات التي تستند إليها عند تغطية هذه الأزمات لكي تصبح فاعِلة في تجنيب البشرية إمكانية تكرار مثل أزمة جائحة كورونا.
وتمضي شبكات التواصل الاجتماعي نحو الهيمنة على اهتمامات المتواصلين من حيث النشر والتلقي والتفاعل، لذا على وسائل الإعلام التقليدية -وفي مقدمتها القنوات الفضائية- أن تستغل هذه الشبكات في نشر محتوى إعلامي صحي محترف يتلاءم مع الخصائص التواصلية لهذه الشبكات؛ حيث إن لكافة القنوات الفضائية حسابات عبر شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام…) ولكنها في الغالب تُستغل للترويج لبرامج القناة، بدلًا من أن تقدم محتوى خاصًّا بمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي.
وعندما تضطر القنوات الفضائية لتغطية الجوائح والأوبئة، عليها أن تأخذ الأمر بالعزم اللازم وتعقد الشراكة الفاعلة مع الجهات المعنية لإعلام الناس بما يجب أن يعرفوه بعيدًا عن الإرباك والنشر غير المسؤول والمفتقر لأخلاقيات المهنة الذي قد يجد طريقه إلى شبكات التواصل الاجتماعي. وعليها أن تبيِّن عن سلطة معرفية متراكمة تجعلها مؤهلة لتقديم الإرشادات وممارسة التواصل الإقناعي، ولا تكتفي بتسليط بعض الأضواء على ما يدور في المجتمع وتنشغل بما لا فائدة فيه.
غياب الاستراتيجية
الوباء الذي اجتاح العالم بأسره، اجتاح بدوره وسائل الإعلام وأرغمها على تغيير أجندتها عندما رأت كيف أن فيروس كورونا يلحق الخسائر بالحكومات والمؤسسات والاقتصادات والأفراد، فأصبحت الأخبار والتقارير تنهمر دون استراتيجية تواصلية مستدامة بُنيت على إدراك عميق لأهمية التواصل الصحي الفعَّال الذي يحول دون تفشي الأوبئة وحدوث الجوائح المدمرة. إنها تغطيات مكثفة تصلح لأزمة عابرة سرعان ما تزول ويعود كلٌّ إلى سابق عهده.
الدراسة نبَّهت إلى أن وسائل الإعلام المعاصرة يجب أن تأخذ العبرة من تجربة تغطيتها لجائحة فيروس كورونا، وتعيد النظر في فهمها وتعاطيها مع الإعلام الصحي حتى لا تتكرر مثل هذه الجائحة في عصر تدَّعي فيه البشرية أنها خطت خطوات متقدمة في النمو والتطور بينما يصعب عليها الاستعداد لمخاطر تهددها منذ القِدَم، وتكرر أخطاءها التواصلية.
كما أن الفضائيات الإخبارية وغيرها من وسائل الإعلام مدعوة للاستثمار في مجال الإعلام الصحي، من خلال تعزيز مواردها البشرية بأفضل الكوادر الفاعلة في المجالين الصحي والطبي، وتوفر لهم الإمكانيات اللازمة لتقديم إعلام صحي يقود البشرية إلى مستقبل خال من الجوائح والأوبئة التي يجني بها الإنسان على نفسه جهلًا أو تجاهلًا للسلوك الصحي القويم.
إن الدراسة تعد عرضًا واقعيًا لتفاعل وسائل الإعلام العربية مع جائحة كورونا، علمًا بأن هذه الأشكال تتحدث وتتغير باستمرار، وفقًا لما يطرأ على الساحة من تغيرات وما تعكسه من آثار، بالإضافة إلى كيفية تعامل الحكومات والشعوب معها.
للاطلاع على الدراسة عبر الرابط.