في الأول من أكتوبر سنة 1457، في مدينة بورغندي الفرنسية، جرت محاكمة للقصاص من قاتل طفل رضيع، وجلس القاضي والشهود والمحامون ينتظرون حديث المتهمة، والتي لم يكن لها أن تتكلم أبدا!.. فقط كانت أنثى خنزير!
كانت الخنزيرة لديها ستة خنازير صغيرة لا يزالون يرضعون منها، وحين حدثت الجريمة جرى القبض عليها وعلى أولادها وإحالتهم للمحاكمة التي حكمت عليها بالإعدام، لكنهم عفوا عن أطفالها لأنه لم يثبت تواطؤهم.
في كتاب «الملاحقة الجنائية وعقوبة الإعدام للحيوانات» الصادر عام 1906م، يسرد الباحث الأمريكي إدوارد بايسون إيفانز ذهاب حيوانات كثيرة للمحكمة بما في ذلك الآفات الطبيعية، مثل: حيوانات الخلد، والفئران، والثعابين، والطيور، والقواقع، والديدان، والجراد، واليرقات، والنمل الأبيض، وأنواع مختلفة من الخنافس والذباب، فنادرًا ما كان يفلت من العدالة أي حيوان، بل إن هناك سجلًّا للمحاكمات القديمة أوضحت أنه جرى معاقبة دلافين في مدينة مرسيليا الفرنسية 1596م لكن لا ندري أي جرم ارتكبه هؤلاء الدلافين ليُعدموا.
فقد جرى استدعاء الخنازير والكلاب والأبقار والفئران وحتى الذباب والبق والسوس في المحكمة، وكانوا يستدعون شهودًا ويتم سماع الأدلة على كلا الجانبين، كانت المحاكمة تقام بالكامل بشكله المتعارف عليه، كما كانوا يعطون للحيوانات شكلًا من أشكال المساعدة القانونية، فهناك محام للحيوان المتّهم من أجل الدفاع عنه، وقد اتهم خنزيرًا بأكل إنسان، وأدانت المحكمة الخنزير وحكمت عليه بالحرق حيًّا أمام الجمهور.
فلم تكن أوروبا، وبالأخص فرنسا، بكل هذا التحضر التي تحاول تصديره عن نفسها، على طول تاريخها، فقد شاب تاريخها العديد من الفترات المظلمة أحيانًا والمجنونة أحيانًا أخرى، بل إن هناك أكثر من 10 قرون في تاريخ أوروبا تُعد من الفترات الأكثر جنونًا حين كانت تحاكم الحيوانات، ويُحكم عليها كالبشر سجنًا تارة وإعدامًا تارة أخرى، كان الحيوان يقف في قفص الاتهام، وهناك نيابة ومحام، ثم ينظر القاضي في القضية ويصدر الحكم.
المتهم: نملة!
في فرنسا مرة أخرى، وبالتحديد في عام 1386 بمدينة فاليز؛ أقيمت دعوى أمام المحكمة ضد النمل الذي لدغ يد ووجه طفل مما تسبب في وفاة الطفل على حد قول الأسرة، حوكم النمل أمام المحكمة وصدر الحكم بالإعدام؛ عملًا بقاعدة العين بالعين، جاء الجلاد وارتدى قفازات جديدة وأعدم النمل في ساحة عامة أمام الجمهور، لم يكن هذا المشهد غريبًا على الجمهور آنذاك، والذي كان ينظر إلى تلك الحوادث على أنها انتصار وتحقيق للعدالة.
الحالات الأولى المعروفة لمعاقبة الحيوان كانت تجري عبر الأديرة المسيحية، وفي القرن السابع الميلادي وتحديدًا سنة 666م، في سانت أجريكولا في مدينة أفينيون الفرنسية تم حرق طيور اللقالق، تلاها في القرن الثامن الميلادي وتحديدًا سنة 728م في سانت بيرمينيوس في جزيرة رايشناو الألمانية طرد الزواحف السامة، وفي القرن التاسع الميلادي سنة 824 حين جرى طرد حيوان الخلد، في وادي أويستا الإيطالي، وإن لم تذكر المصادر بالضبط الجرائم البشعة التي ارتكبتها تلك الحيوانات.
استمرت المحاكم الكنسية للحيوانات بداية من القرن العاشر في سويسرا، وفرنسا، وألمانيا وإيطاليا، وإسبانيا، وكندا، والدنمارك بالإضافة إلى الدول الإسكندنافية، وجرى معاقبة الكثير من الحيوانات واﻟﻘﻮارض التي دمرت المحاصيل الزراعية، وكان الهدف من هذه المحاكمات الكنسية التقليل من الأضرار التي يرتكبها الحيوان وليس ردع الحيوان؛ فصاحب الحيوان حين يعلم أن حيواناته معرضة لمثل هذه المحاكمات سيحاول أن يحد من أضرارهم حتى لا يفقدهم.
الصلاة أولًا!
كانت المحاكمات الكنسية لا تبدأ عادة بمحاكمة الحيوان قبل أن تتخذ مجموعة من التدابير الأولية، فكان أولًا يقدم اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻳﺰﻋﻢ اﻟﻀﺮر ﺷﻜﻮاه إﻟﻰ المحكمة الكنسية، ثم يرسل الكاهن -الذي يقع محل القاضي في الكنيسة- للتحقق في مدى الضرر الذي يزعم أن الحيوان المذكور في الدعوى قد تسبب فيه؛ بعد ذلك تطلب المحكمة من رعايا الكنيسة الصلاة لتهدئة غضب السماء قبل بدء المحاكمة الصحيحة.
وإذا لم تنجح الصلاة في طرد الحيوان أو الحد من أضراره، فإن المحكمة تستدعي فئة من الحيوانات المخالفين للظهور في المحكمة، ويتم تعيين وكيل لتمثيل الحيوانات المتهمة؛ أي محام يدافع عن الحيوانات وكان هؤلاء يأخذون مهمتهم على محمل الجد، فيكرسون الكثير من الوقت والمعرفة والخبرة القانونية للدفاع عن ممثليهم، وكانوا يعتمدون بشكل كبير على ثلاث استراتيجيات؛ تبدأ بتجنب جميع الحجج باستخدام التكتيكات التعويضية، وإذا فشلوا في ذلك يطالبون بمحاكمة مختصة بالحيوانات؛ وإذا فشلوا أيضًا يلجئون للحل الأخير وهو الدفاع عن تصرفات ممثليهم وتبرير أفعالهم.
الشهود مُدانون أيضًا
لم تختلف المحاكم المدنية عن محاكم الكنسية كثيرًا في معاقبة الحيوانات، فقط في الشكل وهيئة المستشارين، ففي الخامس من سبتمبر عام 1379، تعارك خنزيران في أحد الأديرة الفرنسية في مدينة بورغوندي، وقتلوا رجلًا يدعى بيرينوت مويت، وكما جرت العادة في ذلك الوقت، قُبض على قطيع الخنازير بالكامل ومثُل المتهمون أمام المحاكمة، كانت الخنازير تقف في قفص الاتهام لا تدري ما يحدث، حين حاول محاميهم البشري الموكل أن يدافع عنهم بقدر ما يستطيع، لكن القاضي أعلن الحكم بالإعدام.
لم يكتف القاضي بذلك، بل قرر أن يحاكم بقية الخنازير التي رأت الجريمة وصمتت ولم تتدخل، رأى القاضي أن بقية الخنازير «وافقت على الاعتداء»، وبالتالي لم يكن ليسمح لهم بالهروب من العدالة.
الدير الفرنسي السابق لم يكن ليتحمل معاناة الخسارة الاقتصادية لكل تلك الخنازير، لذا كتب إلى حاكم مدينة بورغندي، يناشده العفو عن الخنازير المتفرجة، أما الخنازير القتلة فتركت لتواجه مصيرها، واستجاب حاكم المدينة لطلب رئيس الدير وأعلن العفو عن الخنازير المتفرجة، بينما جرى إعدام الخنازير المذنبة، ولم تظهر السجلات كيفية إعدامهم، لكن كان الشائع آنذاك أن إعدام الحيوانات المذنبة يكون شنقًا أو حرقًا.
قانون استثنائي
في بعض الأحيان كانت المحاكم تعمل لصالح الحيوان؛ إذا كان الحيوان المسيء يمثل قيمة مثل: الثور أو الحصان أو الحمار؛ فيكون القاضي أكثر تقبلًا لنداء محامي الدفاع لتجنب إعدامه. على سبيل المثال في عام 1395 في جزيرة سردينيا الإيطالية، جرى القبض على الماشية المحلية بعد أن ألحقوا أضرارًا بمزارع الغير، وكان المتهمون هم الحمير، وتعاملت المحكمة مع الحمير بشكل لافت للنظر؛ بإصدار حكم مخفف بقطع أذني كل حمار، وحبسه مدة قصيرة وإطلاق سراحه، في حين أن مثل هذه الجرائم كانت تؤدي للإعدام في حالات حيوانات أخرى.
ووصل الخيال الأوروبي في محاكمة الحيوانات لأكثر من ذلك؛ ففي بعض حالات الإعدام كانوا يأتون بالحيوان المذنب كالخنزير مثلًا ويلبسونه ملابس إنسان حتى يتسنى لهم إعدامه، وحتى لا ينفر الجمهور من رؤية مشهد الإعدام، ويشعرون أنه مثلهم بشري يجب أن يعاقب ولا يخل بالنظام الإلهي.
فتاوى المحاكمات!
ومع حالات الإعدام المتكررة لحيوانات من الماشية مثل الأبقار والخنازير والخرفان، فكر العديد من المزارعين في الاستفادة من لحوم الحيوانات المحكوم عليها، وكانت هذه إشكالية كبيرة، فحين جرى إعدام العديد من الخنازير بعد مقتل طفل في مدينة فرانكفورت الألمانية في عام 1553؛ ثم ألقيت جثثهم في النهر وكان يمكن العثور عليها في الفوضى، لذا وضعت الكنائس الأوروبية المختلفة قانونًا بحظر لحوم الحيوانات المحكوم عليها بالإعدام.
ووصل الأمر لأبعد من ذلك فوضعوا قانونًا أنه إذا لدغ النحل شخصًا ومات من اللدغة، يجب خنق النحل في خليته قبل أن ينتج العسل وإلا فإن منتجات النحل المذنب تعد محظورة أيضًا. وفي بلدان أوروبية أخرى، مثل: هولندا وبلجيكا، كان يجري توزيع لحوم الحيوانات المحكوم عليها بالإعدام إلى فقراء المدينة؛ ففي بلجيكا عام 1578، جرى بيع لحوم بقرة حكم عليها بالإعدام فقطعت لحومها عند الجزار؛ وعائدات البيع قسمت بالتساوي بين الطرف المتضرر وخزينة المدينة لتوزيع مالها على الفقراء.