اتفاقيات

مرسوم عبد القادر الجزائري 1843.. كيف سبق المسلمون جنيف بـ 27 عاما إلى حقوق أسرى الحرب؟

رغم محاولات فرنسا المستميتة لطمس سيرة الأمير الجزائري المخضرم عبد القادر الجزائري، فإن صفحته في كتب التاريخ ظلت ناصعة البياض وعصية على التشويه والاغتيال المعنوي، ومن بين سطورها يبرز بوضوح مرسوم الأمير الذي أصدره عام 1843، والذي يعتبر أول “مرسوم مكتوب لتقنين معاملة أسرى الحرب”، حيث منَع تعذيبهم وقتلَهم وسلك نهج الإسلام في التعامل معهم، وذلك قبل المصادقة على اتفاقية جنيف لأسرى الحرب بـ27 سنة.

عام 1837، حدد الأمير عبد القادر، الذي كان قد بويع لتوه أميرا للجزائريين إبان حقبة الاحتلال الفرنسي للجزائر، حقوق الأسرى وجرحى الحرب والسجناء، ثم قام في 1843 بصياغة مرسوم عسكري وافق عليه زعماء العشائر وشيوخ القبائل والأعيان والعلماء يحظر تعذيب الأسرى من الأعداء وتصفيتهم جسديا، وينص على حقوق الأسرى الروحية من خلال السماح للقساوسة بزيارتهم في معسكرات الأسر.

طمس للتاريخ

وقد دأب عديد من  الكتاب والباحثين، غربيين ومشارقة حتى، على نسب نشأة تدوين القانون الدولي الإنساني الحديث إلى قانون ليبر الذي وُضع خلال الحرب الأهلية الأميركية في سنة 1863، واتفاقية جنيف الأولى لعام 1864، وهو الأمر الذي يجانب شكلًا ومضمونًا الأسس الموضوعية ويجافي الحقيقة التاريخية.

الادعاء بأنَّ الضمير الإنساني لم يهتز ليهتم بحال الإنسان أثناء القتال والحرب إلَّا خلال هذه الحقبة التاريخية «1863-1864» يعدُّ دون أدنى شك ضربًا من ضروب التقصير التاريخي، وإجحافًا بحق إسهامات الجماعة البشرية جمعاء، وانتقاصًا من الإرث الثقافي الإنساني الغني بالعديد من الشواهد والممارسات التي تدل على تأسيس الكثير من الأمم السابقة والحضارات الغابرة لقواعد حكمت سير العمليات العدائية ومعاملة غير المقاتلين.

توجيهات إسلامية

وبعيدًا عن أية عصبية وطنية ودينية ومنافية للأمانة العلمية، فإنَّ الأمير عبد القادر الجزائري كان أول من أرسى قواعد القانون الدولي الإنساني الحديث، وأول من بادر بتدوينه، لا سيما في مجال حماية أسرى الحرب، ويمكن القول إنَّ مرسوم 1843 يشكل أول عتبة للقانون الدولي الإنساني الحديث لما تضمنه من قواعد ومبادئ، فضلًا عن مثل ومقاصد شكلت في ما بعد الأسس التي بنيت عليها الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، لا سيما في مجال أنسنة الحرب وضرورة معاملة الجنود غير القادرين على القتال، أسرى كانوا أم مصابين، معاملة إنسانية دون أي تمييز.

بل إنَّ الرئيس السابق للجنة الدولية للصليب الأحمر، السيِّد جاكوب كيلينبرغر، أكد في شهادة له هذا المعنى حين صرَّح بأنَّ «الأمير عبد القادر أعطى مبكرًا ودون علم مسبق، وصفًا وفيًّا لما يشكل الآن العمل اليومي لمندوبي اللجنة الدولية للقانون الدولي الإنساني: ألا وهي مؤازرة الأسرى وضمان احترام حقوقهم وكذا طمأنة عائلاتهم».

وعلى الرُّغم من أنَّهما لم يلتقيا أبدًا في حياتهما، إلاَّ أنَّ الأمير عبد القادر، الجزائري العربي ، وهنري دونان، السويسري الأوروبي، جمع بينهما تطلُّعهما الفريد لأنسنة الحروب وتغليب روح الأخوة الإنسانية على فكرة الإبادة زمن الحرب عند التعاطي مع من فقد القدرة على مواصلة القتال بسبب الإصابة أو الأسر.

ومن مشيئة الأقدار أن تكون الجزائر، بلد الحرِّية والأحرار، وليس غيرها، المحطة الفاصلة في حياة هذين الرجلين العظيمين اللذين كرَّسا حياتهما في سبيل رسالة سامية تمثل همزة وصل بين الحضارتين الغربية والشرقية وجسرًا للتكامل بين الدينين الإسلامي والمسيحي لإعلاء قيم الإنسانية والحفاظ على كرامة الإنسان في أحلك ظروف التقاتل والاحتراب.

فكما أهدت الجزائر للعالم شخصية عظيمة كالأمير عبد القادر، تجلَّت عظمتها في سمُو ورعه ونبل أخلاقه وجميل فروسيته وكمال إنسانيته وعبقرية قيادته بشكل أثار إعجاب العدو قبل الصديق وثناء البعيد قبل القريب، فإنَّ الجزائر كانت أيضًا مقرًّا ومستقرًّا لذلك الشاب السويسري هنري دونان الذي سيصبح لاحقًا مؤسِّسًا للَّجنة الدولية للصليب الأحمر وأوَّل الداعين لوضع القانون الدولي الإنساني الحديث.

ولقد كانت الأعمال والأنشطة التي يقوم بها هنري دونان في الجزائر السبب المباشر في سفره للقاء الإمبراطور نابليون الثالث في سنة 1859 في سولفرينو ووقوفه بالصدفة شاهدًا على المعاناة الإنسانية الرهيبة لآلاف المرضى والجرحى في المعركة الدامية التي شهدتها المنطقة بين القوات الفرنسية والسردينية من ناحية والقوات النمساوية من ناحية أخرى، إلى درجة أن البعض لم يتورع عن القول بأنه لولا الجزائر لما شهد دونان معركة سولفرينو ولما قُدِّر للجنة الدولية للصليب الأحمر والحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر أن تريا النور غالبًا.

بل إنَّ القواعد التي ناضل من أجلها الشاب السويسري كانت بحكم الربط التاريخي مكرسة في جوهرها في روح ومضمون مرسوم الأمير عبد القادر لسنة 1843، نذكر منها على سبيل المثال تكريس مسؤولية السلطة الآسرة للأسرى والتي جُسدت لاحقًا في المادة 12 من اتفاقية جنيف الثالثة لسنة 1949.

أنسنة الحرب

إن سمُو السلوكيات الأخلاقية والمنظومة القيمية التي أسَّس لها الأمير عبد القادر لم تتجلَّ في الأساليب النبيلة في التعامل مع أسرى الحروب التي خاضها فحسب، وإنَّما أيضًا في عقيدة جيشه القتالية وطرق تواصله مع خصومه وأعدائه، الذين بقدر ما قارعهم ببسالة القتال وشهامة الفرسان، فإنَّه قارعهم بحجة الأخلاق الرفيعة وقوَّة الخطاب الإنساني الذي لا يعتدي على إنسانية العدو ولا يجرح عقيدته ولا يمس بمقدساته.

لقد كان الأمير عبد القادر يحرِّر الأسرى احترامًا لإنسانيتهم وصونًا لحقوقهم كبشر، لا باعتبارهم سلعة قابلة لأبشع صور الاستغلال والمساومة، وقد واصل الأمير عبد القادر تطبيق مبادئ الدين الإسلامي حتى وهو في المنفى بسوريا عندما حمى المسيحيين من الدروز وهو ما كان محل إشادة من ملوك وحكام أوروبا في ذلك الوقت، ليثبت أن العالم بحاجة لأفكار الأمير عبد القادر للقضاء على الفساد والحروب التي انتشرت في العديد من البلدان لغياب ثقافة الحب والتسامح والحوار الموجودة في سيرة الأمير عبد القادر كشخصية جامعة كونه قائدا عسكريا ومتصوفا وفيلسوفا ومفكرا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى