لا أحد يعرف على وجه الدقة من أين جاءت الشعوب السلافية التي استوطنت منطقة البلقان وعرفت بتركيبها البشري والعرقي والقومي والديني والثقافي البالغ التعقيد، كما عرفت بتضاريسها الجبلية الوعرة التي مثلت ملاذا للأقليات المضطهدة أو الخارجين على السلطة، على الرغم من انتماء قاطنيها في الغالب إلى الجنس السلافي.
لكن أغلب المؤرخين يعتقدون أن الشعوب السلافية جاءت من أحراج روسيا الباردة، هربا من الجوع وبحثا عن أرض خصبة، وليس هناك أفضل من ضفاف نهر “السافا”. حاول الرومان إزاحة هذه الشعوب المهاجرة دون جدوى. فقد استقروا هم ورحل الرومان، وتمايز السلافيون إلى العديد من القوميات التي مازالت باقية حتى الآن.
والبلقان شبه جزيرة كونها محاطة بالبحار من ثلاث جهات، وهي كلمة تركية أصيلة تعني الجبـل الوعر المكسو بالغابات. ويصفها الجغرافيون بأنها أقصى شبه جزيرة في جنوب أوروبـا ناحيـة الشرق، إذا حسبنا شبه جزيرة إيطاليا أيبيريا. ودول البلقان هي اليونان وتركيا (الجزء الأوربي) وألبانيا وبلغاريا ومعظم يوغسلافيا قبل أن تتفكك في أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي إلى عدة دول عرقية أهمها صربيا.
العثمانيون مروا من هنا
شكلت منطقة البلقان الزاوية الجنوبية الشرقية لأوروبا، ومثلت عبر القرون خط تماس وتوتر ليس فقط بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية كما يعبّر عنه نزاع «أبناء العمومة» الصرب والكروات ـ بل بين العالمين المسيحي والإسلامي أيضاً.
وتعود البداية الحقيقية لانتشار الإسلام في هذه المنطقة إلى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. ويرجع الفضل في ذلك إلى الأتراك العثمانيين، الذين جعلوا من هذه المنطقة ميدانا لفتوحاتهم، وأنشطتهم في نشر الإسلام، على حساب الإمبراطورية البيزنطية، وسطروا فيها العديد من الانتصارات والملاحم البطولية المجيدة التي خلدها التاريخ، ومن أبرزها وأخلدها ذكرا، معركة “قوصوه” أو كوسوفا سنة 1389/791هـ.
ومع أن هناك تأكيدات من كتاب وباحثين في المنطقة تفيد: بأن التأثير العربي والإسلامي وصل إلى شبه جزيرة البلقان قبل الفتوحات العثمانية من خلال الاتصالات التي جرت مع عرب جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا وبلاد الأندلس، إلا أن تلك الاتصالات كانت نتيجة لجهود فردية، وكانت على نطاق ضيق ومحدود، ولم تكن نتيجة لمجهود واسع ومنظم.
واستمرت حروب الدولـة العثمانية مـع خصومها في منطقـة البلقان زمانا طويلا وأخذت أحجـاما مادية ومعنويـة أضخم من الحروب الصليبية في منطقـة الشرق الأدنى واتسمت بتزمت وتعصب وقسـوة من الطرفين خلت منها المعـارك والاشتباكـات في المنطقة العـربية الإسلامية. كـما لم تعـرف مراحل هدنـة طويلـة من النـوع الذي كـانت تعرفـه العلاقـات بين الصليبيين والأمراء المسلمين في بلادنا.
معركة فاصلة
وتعتبر معركة كوسوفا من المعارك الكبرى الفاصلة في التاريخ – وهي من أهم المواجهات الحاسمة بين المسلمين وبين المسيحيين الأرثوذكس في شبه جزيرة البلقان، في شرق أوروبا، وهي تمثل منعطفا حاسما في تاريخ منطقة البلقان والوجود الإسلامي فيها.
ودارت المعركة بين تحالف الجيش الصليبي الأرثوذكسي بقيادة الملك الصربي لا زار من جانب، وبين الجيش العثماني المسلم، بقيادة السلطان مراد الأول 1360ـ 1389م. حيث تمكن الصرب – الذين اعتنقوا المسيحية الأرثوذكسية، في القرنين السادس والسابع الميلاديين، ثم تمكنوا تحت سيادة الإمبراطورية البيزنطية التي كانت عاصمتها القسطنطينية – خلال تاريخهم الطويل من إقامة دولة مستقلة لهم خلال القرن الثاني عشر الميلادي. وكانت تلك المملكة الصربية، هي أول دولة مستقلة في منطقة البلقان.
وبلغت قوة الصرب ذروتها زمن الملك دوشان الذي أعلن نفسه قيصراً عام 1346 وجعل عاصمته مدينة بريتزين، الواقعة غرب مدينة بريشتينا عاصمة كوسوفو الحالية. وأعطى هذا الملك الصربي امتيازات كثيرة للكنيسة الصربية، ونقل مقرها الذي كان في “شيج” إلى مدينة ” بييا Peja” (مدينة تابعة لكوسوفا الحالية). وأظهر الصرب التعصب للأرثوذكسية، وسعوا إلى فرضها بالقوة على الشعوب الواقعة تحت سيطرتهم، واضطهدوا كل الذين رفضوا اعتناقها، اضطهادا وحشيا، وخاصة السكان الكوسوفيين.
وقد تزامن ذلك مع صعود نجم العثمانيين في آسيا الصغرى، ووصول طلائع جيوشهم إلى منطقة البلقان في عهد السلطان أورخان بن عثمان. فتمكن مراد الأول ثالث أمراء آل عثمان من دخول البلقان، وتحقيق العديد من الانتصارات التي توجت بفتح مدينة “أدرنة ” سنة 1361م وهزيمة القوى النصرانية ونقل العاصمة من بروسه إلى أدرنة التي عمرت بالمساجد والمدارس وأصبحت نقطة انطلاق لمواصلة الفتوحات الإسلامية في أوربا.
وقد نجم عن دخول العثمانيين إلى شبه جزيرة البلقان وتوغلهم فيها، وانتشار الإسلام على أيديهم في تلك المنطقة، حدوث موجة من الخوف والذعر اجتاحت الدول الأوروبية، من هذه القوة المتعاظمة. ولما كان الصرب هم القوة الرئيسية في جنوب البلقان في ذلك الوقت، فقد نشطوا للتصدي للعثمانيين، ولمجابهتهم، وكانوا أكثر القوى الأوروبية حساسية من وجودهم، وأشدها تحمسا لقتالهم، وسعيا لإخراجهم بالقوة معتبرين أنفسهم حماة للمسيحية الأرثوذكسية في شرق أوروبا.
وعلى ذلك الأساس، شرع الصرب في الاستعداد، وحشد الأعوان والحلفاء من حولهم وبعثوا بالرسل طالبين النجدة من ملوك الغرب الصليبي ومن بابا الفاتيكان في روما، والذين لم يكونوا غافلين أو متغافلين عن تحركات العثمانيين، في تلك المنطقة. بل بلغت الجرأة بالصرب حدا جعلهم يتجرؤون على مهاجمة أدرنة عاصمة الدولة العثمانية آنذاك، أثناء انشغال السلطان مراد الأول بحصار مدينة ( بيجا )، وذلك في سنة 866هـ- 1363م.
ثم في العام 773هـ/ 1371م، عندما كان السلطان مراد منشغلا في آسيا استغل الصرب الفرصة للهجوم على القوات العثمانية، التي كانت في أراضيهم…ولأجل استئصال هذا التمرد .. فإن السلطان مراد استعد للحرب بتجهيز جيشه الآسيوي ومعه ابنه بايزيد ويعقوب، وفي أوروبا انضمت أجزاء جيشه إليه وجمع السلطان مراد الأول هذه الجيوش واتجه إلى المعركة.
في غضون ذلك كان الصرب قد نجحوا في تشكيل أول تحالف صليبي ضد المسلمين في البلقان. هذا الحلف الذي أنشأه « لازار » ملِك الصرب وانضم إليه « توارتكو الأول » ملِك بوصنة أيضاً. ثم توسع هذا الحلف فدخل فيه الألبانيون، والبولنديون، والبوشناق. وجمعوا جيشاً ضخماً، وضعوه تحت قيادة « لازار ». كان هذا الجيش ضخماً إلى درجة ساد شعار (لو أن السماء وقعت لتلقيناها بأسنّة حرابنا) بين جنود هذا الجيش. وكان ذلك الجيش حسب بعض التقديرات، يتكون من ما يزيد عن مائتي ألف مقاتل من الصرب وحلفائهم.
انتصار حاسم
وأخير عندما جاءت الأخبار بقدوم الجيش العثماني إلى معقل الصرب، أعلن الملك الصربي لازار النفير العام، واستثار نخوة الصرب وحماسهم الديني إلى أقصى حد، وزاد على ذلك بأن صرح على رءوس الأشهاد بأن ” كل مَن وُلد وتجري في عروقه دماء صربية أو نسب ولم يأت لقتال الأتراك في كوسوفو، لن يولد له صبي، أو صبية، ولن يرث أرضه ابن.
وما لبث الصرب وحلفاؤهم من نبلاء البلقان، أن زحفوا بتلك القوات من الشمال، لوقف الاندفاع العثماني، وعسكروا بجيوشهم الجرارة في سهل كوسوفا – إلى الشمال من مدينة بريشتينا- واحتلوا أفضل التلال المشرفة على الميدان، وحقق جيشهم بذلك نقطة إيجابية لصالحه. وحينئذٍ كان الجيش العثماني قد أكمل استعداداته، فزحف بدوره من الجنوب، على وجه السرعة.
وفي صبيحة يوم 28 يوليو1389م، الموافق 15شعبان 791هـ، وبعد مفاوضات فاشلة، التحم عشرات الآلاف من الجنود في نفس ذلك المكان، في معركة ضارية وطاحنة يشيب من هولها الولدان، بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معنى، وقاتل فيها الطرفان بعناد وضراوة، وكان الطابع الديني هو الغالب على شعارات وهتافات الطرفين في تلك المعركة.
ولم تلبث المعركة أن انتهت بانتصار حاسم للأتراك العثمانيين المسلمين وهزيمة ساحقة ماحقة للصرب وحلفائهم، والذين فقدوا في هذه المعركة زهرة شبابهم، وكبار قادتهم، وعلى رأسهم الأمير الصربي لازار، فضلا عن كونها كانت نهاية لاستقلال الصرب وفقدهم لدولتهم، التي اجتاحتها الجيوش التركية، التي استمرت في اندفاعها على مراحل تاريخية متقطعة، حتى وصلت إلى أسوار “فيينا”، واختفت الشعوب السلافية الجنوبية من التاريخ لمدة ثلاثة قرون ونصف. ولم تقم للصرب دولة طوال تلك المدة، وبقي ذكر هذه المعركة شهيرا في أوروبا بأسرها.