كتب

[:ar]مستقبل الخلافة في فكر عبد الرزاق السنهوري[:en]The future of the Caliphate in the thought of Abdul Razzaq al-Sanhuri[:]

[:ar]“عندما دخلت إحدى المكتبات الفرنسية وترددت عليها كثيرا أطلعني مدير المكتبة على نسخة من كتاب السنهوري فقه الخلافة وتطويرها إلى هيئة الأمم الإسلامية مهداة للدكتور إدوارد لامبير الذي أشرف على السنهوري في ليون الفرنسية وكان يلقبه بالعالم المسلم الناشئ الفذ ومما تعجبت منه في سنة 1968 هو ما كتبه الأستاذ تعليقا على كتاب السنهوري يا ليت قادة أوربا يتخذوا من هذا الكتاب دليلا لإنشاء اتحاد أوربي أو هيئة أمم أوربية أو خلافة أوربية مما يعزز علاقات التكامل والسلام والرفاه والوحدة والقوة”. – من مضمون محاضرة للدكتور أحمد القديدي دبلوماسي وسياسي تونسي معروف

حين سقطت الخلافة الإسلامية 1924، كانت كل البلاد المسلمة تقع تحت الاحتلال بشكل رسمي عدا تركيا والحجاز وأفغانستان وإيران ومصر، تلك البلاد التي كان الاحتلال قد وصل فيها شكلا من التطور بحيث يمنحها استقلالا صوريا يعطيه ميزات المحتل دون دفع ضريبة الانتقال والتعدي. في ظل واقع كهذا، يمكننا أن نتخيل كيف كانت فكرة السنهوري في كتابه المؤسس: فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، التي يُعلم من سبقه إليها عربيا أو غربيا- بإنشاء منظمة دولية للمسلمين سماها عصبة الأمم الشرقية -رائدة وباهرة.

لقد انقسم جمهور نخبة المسلمين حين سقطت الخلافة إلى فريقين، فريق أصولي يرى الخلافة في ضوء تأسيسها الراشدي الإمبراطوري القديم، وفريق واقعي يرى التمسك بالنسق الإمبراطوري تخذلا عن مسايرة التطور البشري الذي تجاوز مرحلة الإمبراطوريات ودخل عصر الدول القطرية المفصلة. وقف عبد الرزاق في المنتصف، محاولا الجمع بين الفريقين عبر تصور (أو لنقل خطة عمل) يضع من خلاله أصولية الخلافة ووحدة الأمة جنبا إلى جنب مع التطور الإنساني والحضاري المفروض.. مفرقا في ذلك بين الأصالة والجمود، والحداثة والذوبان.

يقوم تصور السنهوري للخلافة على أن هدفها الأساسي هو وحدة الأمة، وليس وحدة الدولة، وأن الشكل الإمبراطوري للدولة الإسلامية قد يكون الأمثل من الناحية التطبيقية لفكرة الخلافة نظريًا، إلا أنه ليس من شروط إقامة الخلافة في ذاتها. ويري السنهوري أن العصر الذي أنشأ فيه المسلمون خلافتهم، كان تطوره الحضاري يقوم على البناء الإمبراطوري للكيانات، فكان تقسيم العالم إلى كتل ضخمة كالروم والفرس والعرب، وكان على القبائل والمدن الحدودية أن تختار إمبراطورية تنتسب إليها وتبايعها.

هذا الشكل التجميعي لكتل العالم الإنساني جاء تطويرا لبنية حضارية سابقة كانت متسمة بالانفصالية، لذا يرى السنهوري أنه يجب فهم الشكل الإمبراطوري الذي قامت عليه الخلافة الإسلامية، في إطار مجاراتها للتطور الحضاري البشري الذي قامت في ظله. وهذا يدعونا للسؤال: هل لأن الخلافة قد نشأت وترعرعت في مرحلة التصور الإمبراطوري للحضارة الإنسانية، فإن الشكل الذي قامت عليه يجعله أصلا في تصورنا عنها؟ وهل كان الإسلام وحيدا حين أنشأ إمبراطورية متماسكة، أم كانت سمة العصر كله، فرسًا ورومًا ومسلمين؟

يتساءل الكاتب: هل لأن الإسلام نشأ -لأسباب حضارية لا دينية- في شكل دولة واحدة، فإن على المسلمين أن يقفوا معارضين لأي تطور حضاري قد يطرأ على التصور الإنساني لإدارة التجمعات البشرية؟ باختصار: هل هدف الخلافة توحيد الأمة أم توحيد الدولة؟ يقول المدافعون عن فكرة الإمبراطورية إن توحيد الأمة لن يتم إلا بتوحيد الدولة، لذا فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. وفي الحقيقة هذه نظرية تحتاج لمراجعة كبيرة، ولا ترقى لأن تكون حجة كافية لتثبيت أركان الفكرة وتحويلها إلى خطة عمل. عبد الرزاق السنهوري كتب تصوره عن مستقبل الخلافة في ظل الحقبة الاستعمارية لبلاد المسلمين. أدرك الرجل باكرا أن حقبة النضال ضد المحتلين في كل بلد عربي ستطول، وأنها ستتخذ رغما عنها بحكم الواقع نزعة وطنية، لا سيما وأن المحتل في كل بقعة غير التي تليها.

لقد تحولت النضالات العربية ضد الاحتلالات الغربية من الجهاد إلى الاستقلال الوطني بعد سقوط الخلافة لم يكن مرتبطا في الأساس بسقوط الخلافة واختفاء رايتها، وإنما كان تطورا طبيعيا فرضته طول مدة النضال، واختلاف المحتل في كل بقعة، والتحرر غير المتزامن الذي كان يفرض على كل بقعة محررة أن تسير شؤونها في انتظار جارتها المحتلة حتى تتحرر هي الأخرى. وأمام هذا الفهم، دعا السنهوري إلى عدم معاداة الشكل القطري للدولة باعتباره عصرا جديدا وتطورا كبيرا في الحضارة الإنسانية، واعتبر أن بسقوط الإمبراطوريات المسيحية والإسلامية، دخلت البشرية عهدا جديدا يجعل الدول القارية الضخمة محض تاريخ أرشيفي أمام الدول القطرية الوطنية الجديدة.

إذن، كيف ستتحقق الخلافة في نظر السنهوري؟ قلنا إن الرجل انطلق من مبدأ كون الخلافة تستهدف وحدة الأمة لا وحدة الدولة، لذا فإن تصوره قد قام على فكرة عبقرية لم يسبقه إليها فيما وصلنا أحد. قسم السنهوري وحدة الأمة إلى قسمين: وحدة دينية وثقافية، ووحدة سياسية وأممية.. وانطلاقا من ذلك، فقد دعا إلى تأسيس منظمتين إسلاميتين عالميتين أحدهما تعنى بشؤون الفقه الإسلامي والديني والثقافي للأمة، والأخرى تقوم على تعزيز وحدة الأمة السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكافلية والتضامنية. ودعا السنهوري إلى الفصل التام بين مخصصات المنظمتين، فلا يقع العلماء تحت استبداد الحكام ولا سلطانهم، ولا يقع الحكام في شراك الحكم باسم الله كعصور الكنيسة الأوروبية.

لا نبالغ إذا قلنا إن عصبة الأمم التي شكلت نواة منظمة الأمم المتحدة قد تكون مأخوذة بشكل مباشر وصريح عن بحث السنهوري الذي نشره بالفرنسية أول مرة في باريس. ورغم ذلك، فإن اختزال تصور السنهوري، حول إدارة بلاد الأمة المسلمة، في فكرة التدويل وحدها، ظلم كبير.. فاجتهاده لم يتوقف عند فكرة المنظمة الإسلامية، وإنما كانت هي السمة الأبرز فيها، فاستحقت التصدير بين كتاباته.

فقد تحدث السنهوري عن تصوره لمهام كل منظمة، فالدينية تقوم على تجديد الفقه والفتوى العامة في الملمات الكبرى ورعاية شؤون الحج والعمرة والقيام على بيت الله الحرام، وتحديد مطالع ونهايات المناسبات الدينية، والحفاظ على الهوية الإسلامية للأمة ومحاربة الانحلال الأخلاقي والنفسي للمسلمين، والقيام على طباعة المصاحف والتراث الإسلامي، وغيرها من مهام فكرية ودينية أممية.

أما المنظمة السياسية -واقترح أن يكون اسمها عصبة الأمم الشرقية- فقد رأى فيها السنهوري بديلا حضاريا جيدا للخلافة الموحدة الإمبراطورية القديمة، فهي تحفظ لكل بلد خصوصية مقدراته واستقلال مفاهيمه وعاداته وقوانينه، لكنها تُبقي الأمة الإسلامية وحدة متكاملة في مواجهة الكيان العالمي، فتعمم مبادئ السياسة الدولية لكل البلاد الإسلامية وتضع قرارات الحرب واتفاقات السلام وتعزز الاقتصاد والعملة المشتركة وخلافه.

أخيرا، تمنى السنهوري على الشباب ألا ينخلعوا عن جهاد أجدادهم وتضحياتهم في سبيل الدفاع عن وحدة الأمة، وألا ينفضوا حول الخلافة خوفا من اسمها أو هروبا مما يلاصقها من تفزيع، ورأي في ذلك استسلاما للعرب والمسلمين ونجاحا للغرب وحملاته الاستعمارية وخلعا للأجيال المسلمة عن جذورها وتاريخها وسر خصوصيتها وتميزها.[:en]

The future of the Caliphate in the thought of Abdul Razzaq al-Sanhuri
[:]
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى