شخصيات

[:ar]إنسانيات نجيب محفوظ.. الجانب الأكثر غموضًا[:en]Najib Mahfouz[:]

[:ar]

لم يكن نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911- 30 أغسطس 2006) مجرد أديب عابر في تاريخ الأدب المصري والعربي؛ بل كان وسيظل رمزًا شامخا على المستوى الأدبي والإنساني، بعطائه المميز والذي توج بحصوله على جائزة نوبل العالمية في الأدب.

وقد ظلت أسرة محفوظ –المكونة من ابنتيه فاطمة وأم كلثوم- بعيدة عن المشهد إلى درجة العزلة قبل رحيله وبعده أيضا، فلم يستسيغوا أبدًا الظهور الإعلامي رغم الأضواء التي كانت مسلطة على حياة والدهم باستمرار، واقتصر حضورهما على بعض الحوارات الصحفية المكتوبة على صفحات الجرائد الرسمية.

إلا أن الأسرة بدت مضطرة للخروج على العزلة بعد وفاة الابنة الكبرى فاطمة، وذلك بسبب حملة شنها كاتب يدعى سليمان الحكيم، في سلسلة مقالات، على بنات محفوظ، ادعى خلالها أنهن ينتهجن أفكار تنظيم الدولة، لأنهن يرفضن السماح للسينما بتناول أعمال والده المثيرة للجدل مثل رواية أولاد حارتنا، وأنهن –بحسب زعمه- يعتبرنها أعمالا محرّمة.

الظهور الأخير –وربما الأول منذ رحيله- لابنته أم كلثوم بحجاب أصفر وعباءة طويلة ونظارة شمسية تغطي نصف الوجه على طريقة والدها، كشفت فيه الكثير عن “طبيعية” حياة الأسرة التي تحمل حوائط منزلها قائمة من أعظم شهادات التقدير وجائزة نوبل العالمية في الأدب.

كان بيت محفوظ على الحقيقة يبدو تماما مثلما ظهر في أعماله، بيت مصري أصيل بعاداته وتقاليده، يستمد قيمه من الحارة وقواعدها، ويستلهم من حواريها مبادئه وتصوراته، فبدت أعماله لوحات صادقة التعبير عن حياته، لا سيما النسخ الأولى منها، التي كتبها في شبابه، وكانت تتسم بالقصر وغياب التعقيد وطغيان الجانب الإنساني.

انعكاس التجربة

قليلون هم من غاصوا في أعماق تجربته الإنسانية، محاولين سبر أغوار كتاباته القصيرة التي كان يعبر بها محفوظ عن مكنونات عابرة تعكس ملامح شخصيته بعيدا عن مشاريع الرواية الكبيرة المكتظة المتداخلة، وزحام التنقيب في أرشيف صاحب نوبل واللهاث وراء إعجاز الأرقام والإحصاءات.

ولد نجيب محفوظ في حواري القاهرة، خلال فترة زمنية مميزة في مطلع القرن الماضي، وكان عمره 7 أعوام حين قامت ثورة 1919، والتحق بجامعة القاهرة عام 1930 في بداية الانفتاح الثقافي على الاحتلال، وحصل منها على ليسانس الفلسفة التي وسّعت مداركه وآفاقه.

تلك المكونات المتعددة زمانا ومكانا اجتمعت سويًا فأفرزت في النهاية شخصية عبقرية بحجم نجيب محفوظ، لتستمر في التأثير في كتاباته حتى نهايات اشتغاله الأدبي والكتابي. لقد كان محفوظ محبا للكتابة حد المرض، لا يترك القلم ولا يعرف صديقا غير الأوراق، ترك تراثا عظيما من الأعمال الأدبية، وهو صاحب الرصيد الأكبر بين الكتاب الذين تحوّلت أعمالهم إلى أعمال درامية وفنية.

فقد كتب محفوظ منذ بداية الأربعينيات واستمر حتى العام 2004، وتدور أحداث جميع رواياته في مصر، لا سيما الحارة المصرية الصغيرة وعالمها الكبير. ومن أشهر أعماله الروائية: الثلاثية وأولاد حارتنا، التي مُنعت من النشر في مصر منذ ظهورها وحتى وقت قريب.

كتاب مفتوح

وبشكل عام، تعتبر مؤلفات محفوظ مرآة للحياة الاجتماعية والإنسانية والسياسية في مصر ، ومع أنه بدأ الكتابة في وقت مبكر إلا أنه لم يلق الاهتمام حتى قرب نهاية الخمسينيات، فظل مُتجاهَلا من قبل النقاد لما يقارب خمسة عشر عاما قبل أن يبدأ الاهتمام النقدي بأعماله في الظهور والتزايد.

وكانت فاتحة الخير على محفوظ، مقال كتبه الأديب سيد قطب في مجلة الرسالة عام 1944 الذي أشار بوضوح إلى موهبة محفوظ، وقدمه للجماهير التي كانت تجد في اختيارات قطب قواعد صارمة تجعل من يحوز ثقته خليقا بالاهتمام والمراقبة.

كلمة السر

وتعد كلمة السر في فهم إنسانيات نجيب محفوظ هي قصصه القصيرة، تلك المواد المذهبة التي لم تنل حظها في التناول كما نالته الأعمال الروائية، فنجيب محفوظ روائي، هكذا جرت العادة.. لكن قليلون يعرفون أن له إبداع لا يقل عن نظيره الروائي، ألا وهو الرصيد القصصي.

لماذا القصص القصيرة أصدق في التعبير عن إنسانيات محفوظ؟ لأنها البدايات.. فقد بدأ نجيب محفوظ الكتابة عبر قصص قصيرة كان ينشرها في مجلة الرسالة في منتصف الثلاثينيات، يعبر فيها عن ذاته وطموحاته، يكتب بنفسه عن نفسه لا عن الآخرين كما في أعمال النضوج.

وقد أنجز محفوظ ما يزيد عن 15 مجموعة قصصية، وهو عدد وفير من الناحية الكمية، بل يشكل مكتبة كاملة في فن القصة القصيرة، ولعل بعض أعلام هذا الفن من غير الروائيين لم يتح لهم أن يكتبوا نصف هذا الكم الهائل.

وبالرغم من انقطاع محفوظ عن القصة القصيرة قرابة ربع قرن – أي منذ صدور مجموعته القصصية الأولى “همس الجنون” عام 1938، وحتى صدور مجموعته الثانية “دنيا الله” عام 1963- إلا أن الله قد منحه عمرا مديدا فاهتم منذ عقدين بالقصة القصيرة، وأحيانا القصة القصيرة جدا.. كما في قصة اللؤلؤة التي تقع في كاملة في فقرة واحدة متوسطة الطول:

“جاءني شخص في المنام ومد لي يده بعلبة من العاج قائلا: تقبل الهدية. ولما صحوت وجدت العلبة على الوسادة، فتحتها ذاهلا، فوجدت لؤلؤة في حجم البندقة. وبين الحين والحين أعرضها على صديق أو خبير وأسأله: ما رأيك في هذه اللؤلؤة الفريدة؟ فيهز رأسه ويقول ضاحكا: أي لؤلؤة؟ العلبة فارغة.. وأتعجب من إنكار الواقع الماثل لعيني، ولم أجد حتى الساعة من يصدقني.. ولكن اليأس لم يعرف سبيله إلى قلبي”.

الرفقاء يتكلمون

كان من المعروف أن نجيب محفوظ يتوقف عن الكتابة طوال أشهر الصيف لمرض أصاب عينيه، وبالتالي كان يقضي أيام الصيف في الإسكندرية، ويعقد ندوة أسبوعية هناك، والتف حوله أدباء الإسكندرية، ومنهم سعيد سالم، الذي كان يسجل يوميات هذه الندوة ونشرها في كتابه “نجيب محفوظ الإنسان”.

وكان مما سجله سالم في هذه اليوميات قول محفوظ التالي: “إن حبي للهندسة والعلوم الرياضية أكسبني ذهنا مرتبا ومنطقيا، وساعدني على تنظيم حياتي، وهذا التنظيم كان ضرورة، لأني كنت موظفا ملتزما بمواعيدي”.

يشهد على هذا انضباط نجيب محفوظ في بدء الندوة وإنهائها في توقيت محدد، لا يتجاوزه، كذلك ثبات موعد تناول فنجان القهوة الأول والثاني، حيث لا يتناول من كل منهما أكثر من رشفتين أو ثلاث، ليجمع بين متعة القهوة ويتجنب خطر ضغط الدم في آن، وأيضا توقيت التدخين الفاصل بين السيجارة والأخرى.

هذا الفارق الزمني – وقدره ساعة بالضبط – من لوازم الأستاذ المقدسة، حيث لا يأخذ من كل سيجارة إلا بعض الأنفاس، قبل أن يطفئها، ليجمع بين لذة التدخين وطاعة الأطباء بالامتناع عنه.

وبالإجمال، فإن حصر شخصية نجيب محفوظ في زاوية الرواية يعد ظلما كبيرا وتجنيا على نتاجه الأدبي والإنساني، فإن ثمة مساحة أخرى للرجل منحت اهتماما خاصا للجانب الروحي والنفسي لشخصية الفتى والشاب والرجل والكهل نجيب محفوظ، ومن حصاد هذا الاهتمام صدرت عدة أعمال ربما لم تُقرأ بعد قراءة نقدية متأنية.[:en]

Najib Mahfouz
[:]
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى