غير مصنف

من الاختناق إلى التشبع.. سرديَّة الفساد في دراسة “مصر بين مسارين”

لم تعد مصر قبل يوم الثالث من يوليو 2013، هي نفسها مصر التي تشكلت بعدها، فمنذ ﺇﻃﺎﺣﺔ جنرالات الجيش ﺑﺎﻟﺮﺋﻴﺲ المنتخب محمد مرسي استشرى الفساد في أروقة الحياة المصرية بشكل غير مسبوق، منطلقًا من فساد رأس السلطة الجديدة القادمة عبر انقلاب عسكري، ووصولا إلى أدنى درجات الدولة في هيكلها الحكومي والشعبي، بعد أن كان الفساد في “مصر مرسي” يكابد ما يمكن وصفه بعملية حصار خانق طالت جميع المستويات والأصعدة.

وفي إطار سعيها لبناء مقارنة تتبعيَّة لعملية صراع المسارين: المسار الثوري، والمسار المضاد له من خلال عهدي مرسي، والسيسي اللذين يمثلان مظاهر عملية لِمُخْرَجَاتِ كل مسار؛ أولت دراسة مؤسسة “وعي” للبحث والتنمية -التي حملت عنوان (ثورة مصر بين مَسَارَينِ.. المسار الثوري والمسار المضاد له: نماذج مقارنة من عهدي مرسي والسيسي خلال المدة من 2012 – 2016)- الاهتمام لمحور الفساد بين المسارين.

فقد مثَّلت سردية الفساد محور احتكاك عملي بين الثورة وبين القوى المعادية لها، فهذه السردية التي تعيشها مصر منذ عقود لسنا في مجال الخوض في تفاصيلها، والحديث عن رموزها، وعوامل استمرارها، وآثارها التدميرية على الوطن والمواطنين، وسبل مواجهتها كما يسعى الباحثون إلى بيان ذلك وتوضيحه؛ وإنما نأخذ لمحة مقارِنة لها عند أدبيات ثورة 25، وعند القوى المعادية لها كما وردت في مقاربات المسارين.

فعن الظلم الاجتماعي وفقدان الثقة في الحكومة، وموقفها من استشراء الفساد توصلت الدراسة -اعتمادًا على نتائج الدراسة التي أجرتها وزارة التنمية الإدارية للعام 2009 على عيّنة واسعة من الشعب المصري- إلى مجموعة من النتائج والتي شرحت بالأرقام وجود إحساس مرتفع بالظلم داخل المجتمع المصري، وكان تَرَدِّي الجانب الاجتماعي والاقتصادي وموقف الحكومة من الفساد والقيم الأخلاقية والدين وفقدان الشفافية في المجتمع، وتراجع قيمة المشاركة، وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، والخوف من العمل الجماعي، والخشية من مواجهة الفساد، وسكون الخوف داخل نفوس المصريين عامة، من السمات البارزة في دولة مبارك في هذا التوقيت.

وعن قيمة الثقة في المجتمع، عبَّرت العينة عن رأيها بانخفاض قيمة الثقة في المجتمع خلال السنوات من 2005/2009م، وأن أسباب هذا يتمثل في: الاهتمام بالمصلحة الشخصية، وانتشار النفاق، وفقدان الضمير، وفقدان الوازع الديني، وبسؤالهم: أي المجموعات أَولى بالشك؟ ذكر 48% أنهم يشكُّون في المسؤولين الحكوميين، بينما 33% يشكون في الأحزاب السياسية.

حصار الفساد في عهد مرسي

وفي سنة حكم الرئيس محمد مرسي عَمِلَتِ  القوى المعادية للثورة على زعزعة ثقة المجتمع في الرئيس، وفي حزب الحرية والعدالة، وكذلك في حكومة هشام قنديل التي غلب عليها التكنوقراط باعتبار كل ذلك من مُخرَجَات ثورة 25 يناير في المنحنى الديمقراطي، وبَنت خطابها المُضَلِّل على الموقف السلبي الطبيعي المخَزَّن في ذاكرة المصريين تجاه الحكومة والسلطة أيًّا كانت، كما جاء في تقرير التنمية الإدارية المشار إليه منذ قليل، ولم يكن رئيس الوزراء حزبيًّا ولا منتميًا إلى جماعة الإخوان المسلمين، كما لم يكن لحزب الأغلبية إلا عدد ضئيل من الوزراء أبرزهم وزير التموين ووزير الشباب ووزير الحكم المحلي، وهم المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة حتى أنهم عُرض عليهم الاستمرار في حكومة ما بعد انقلاب 3 يوليو.

وقام الرئيس محمد مرسي -وهو أحد مُخْرَجَات ثورة 25 يناير- بتعيين المستشار هشام جنينة رئيسًا للجهاز المركزي للمحاسبات (أكبر جهة رقابية على كافة مؤسسات الدولة المصرية)، وهو يُعَدُّ من أصحاب الكفاءات العالية التي أظهرت نشاطًا كبيرًا، وجديَّة واضحة في كشف الفساد حينها، وقد أظهر الجهاز الشجاعة والجرأة في فتح ملفات السلطة الحاكمة.

وبعد أن دعا الرئيس محمد مرسي رئيس الجهاز وكوادره لمباشرة عملهم الرقابي في داخل مؤسسة الرئاسة، ورَفَعَ كل القيود والخطوط الحمراء عن موظفي الجهاز الذين اختارهم المستشار جنينة بناء على معايير، وحُدِّدَت مهامهم بحرية ومهنية، وباشروا أعمالهم، وبدأ دولاب العمل الرقابي الحقيقي، وانتقلت لجان أخرى بالتوازي لممارسة عملها وفق الدستور في مؤسسات القضاء والداخلية وجهاز الأمن الوطني والمخابرات العامة وغيرها.

واعتبرت النخبة والجماهير أن تعيين المستشار هشام جنينة صاحب التوجه اليساري المخالف لتوجه حزب الرئيس مرسي أحد أهم مكتسبات ثورة 25 حيث التزمت الأجهزة الصمت حينها، ولم يظهر اعتراضها وغضبها المخزَّن إلا بعد الإطاحة بالرئيس المدني المنتخب، وبدأت المضايقات والتعقيدات تواجه رئيس الجهاز وكل معاونيه شيئًا فشيئًا، حتى فتحت القوى المعادية للثورة –التي تحولت بعد 3 يوليو 2013 إلى قوة انقلاب متكامل الأركان-  أبواقها ضد المستشار جنينة بشكل شخصي تمهيدًا لعزله (وهي الخطوات ذاتها التي تمت مع كل مخرجات المسار الثوري من قبل مثل مجلس الشعب والدستور والرئيس مرسي).

الفساد.. شعار الانقلاب

حظيت حكومات ما بعد انقلاب 3 يوليو هي الأخرى – وبزيادة – بنصيب أكبر من عدم الثقة المتوارَث وخاصة في العامين 2015 و2016 حين لم يجد الشعب أي مستَنَدَات لبيع القناة أو سيناء أو غيرها من الادعاءات؛ بل وُجِدَ أنَّ هذه الادعاءات التي شنَّعوا بها على سلطة الرئيس المنتخب صار بعضها إجراءات وخطوات عملية من سلطة الانقلاب العسكري؛ حيث اهتزت ثقة الشعب على نحو كبير في سلطة الانقلاب حول قضية “تيران وصنافير” التي فوجئ بها الشعب على حين غِرَّة، فلا لجان ترسيم حدودية سُمِعَ بها، ولا اتفاقيات تم نشرها، ولا دور حقيقي للبرلمان ولا استفتاء شعبي يليق بهذه المسائل الخطيرة، وترافقَ الإعلان بالتنازل عنها مع حزمة مساعدات ومشروعات استثمارية كبيرة من المملكة العربية السعودية خلال زيارة الملك سلمان الذي استكمل رعاية الانقلاب بعد وفاة أخيه الملك عبدالله، وسرعان ما صارت قضية تيران وصنافير ذاتها عاملًا من عوامل إضعاف الثقة في الحكومة ليس داخليًّا فقط بل مع المملكة السعودية ذاتها بسبب الطريقة التي حاولت بها الحكومة المراوغة والاستفادة من الدعم المالي والتراجع بوسائل مختلفة عن الوعد بالجزيرتين ليس خوفًا من غضب الشعب، وإنما طمعًا في المزيد من الدعم المالي من المملكة.

بل إن التوسع في حظر النشر عن الفساد الحكومي وبعض قضايا الاغتيالات لشخصيات كبيرة نافذة في نظام 3 يوليو في الشرطة والجيش والقضاء مثَّل إضعافًا للثقة داخل تحالف 3 يوليو نفسه وصار الطابع الغالب على مكوِّناته هو التربص والحذر… وكل يوم يتعمق فقدان الثقة في سلطة الانقلاب بالتوازي مع حوادث تصفية المعارضين في طول مصر وعَرْضِها والادعاء باشتباكات، وكان منها تصفية عشرة شباب معتقلين في سيناء في يناير 2017 ، مما أثار حفيظة القبائل بشكل غير مسبوق، ودعوا في اجتماع قبلي حاشد إلى انسحاب ممثليهم من البرلمان، ووقف التعامل مع السلطة، وهو تطوُّرٌ خطير للغاية يؤثِّر على وحدة الأراضي المصرية.

وامتد فقدان الثقة للمحيط العربي إجمالًا بعد تسريبات مشينة في حق من دعَّم الانقلاب نفسه ومن لم يدعم (ثبتت صحتها وفق المختبر الدولي للأصوات”JP French Associates” بطلب من مكتب ITN القانوني ومقره بريطانيا)، وامتد ذلك إلى العالم الغربي بعد حادثة مقتل الطالب الإيطالي (ريجيني) وما قامت به الحكومة من مراوغات ومناورات لطمس الحقيقة في هذه القضية، وشَمَلَ أيضًا مقتل السياح المكسيكيين، وحادثة سقوط الطائرة الروسية وغيرها من الحوادث التي ألقت بظلالها على علاقات مصر الخارجية ؛حيث تتآكل الثقة في مصر الدولة يومًا بعد يوم، وينحسر دورها عربيَّا وخارجيًّا.

يشار إلى أن دراسة “وعي” تهدف إلى التوعية بحقائق الصراع بين مساري الثورة والانقلاب بلغة مبنية على الأرقام والإحصاءات المتعلقة بالحالة المصرية قام بها متخصِّصون في مراكز علمية ودراسات ميدانية وخلاصات للمنظمات الدولية المعتبرة في الاقتصاد والسياسة وحقوق الإنسان وغيرها.

واعتمدت الدراسة على مجموعة من المصادر المتنوعة، والدراسات النظرية والميدانية التي تناولت الحالة المصرية بكافة تفاصيلها خلال مراحل الثورة المختلفة، واشتملت على إحصاءات ومقارنات وتحليلات نقدية لخبراء ومختصين، ومنها التقارير الاقتصادية مثل: تقارير البنك المركزي المصري والبنك الدولي والاتحاد الأوربي ومجلة الإيكونومست، وتقارير وزارة التنمية الإدارية بمصر، والجهاز المركزي للمحاسبات، ومنظمات حقوق الإنسان، وجهاز التعبئة والإحصاء، والتقارير الوثائقية والكتب الدورية، وتحليل الخطابات والبيانات السياسية والاقتصادية الصادرة عن الجهات ذات العلاقة، وغيرها من المصادر.

للحصول على نسختك من دراسة (مصر بين مسارين) (اضغط هنا)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى