شخصيات

[:ar]أجاثا كريستي.. ملكة أدب الجريمة[:en]Agatha Christie[:]

تقول أسطورة سينمائية في عالم هوليود إن العصر الذهبي لأفلام الجرائم بدأ فعليا بعد دخول الكاتبات من النساء إلى مضمارها، وأن خيال المؤلفين الرجال ظل شاحبا أمام إبداع غير مسبوق للنساء، فلا يمكنك أن تستعرض تاريخ الأعمال البوليسية وسينما الجريمة دون أن تتوقف طويلا أمام الكاتبة البريطانية دافني دو مورييه مؤلفة فيلم “ريبيكا” التي تحتل واحدة من أقدم جوائز الأوسكار لأفضل فيلم عام 1941.

الحقل الأدبي والروائي لم يكن بمعزل عن الخضوع للقاعدة نفسها، منذ الإنجليزية بي دي جيمس صاحبة سلسلة الشرطي آدم دالغليش، والأمريكية باتريشيا كورنويل صاحبة سلسله “سكاربيتا” الشعبية، ومواطنتها ماري هيجنز كلارك صاحبة رواية “ولكن أين هم الأطفال؟” الأكثر شهرة في خلق الغموض والتشويق، والكاتبة الإنجليزية روث ريندل صاحبة روايات “المفتش ويكسفور”.

لكن رغم الحضور النسائي الطاغي بأعمال الجريمة، تظل الإنجليزية “أجاثا كريستي” (Agatha Christie) أعظم مؤلفة للروايات البوليسية في التاريخ الحديث، حيث بيع أكثر من مليار نسخة من رواياتها التي ترجمت لأكثر من 103 لغات، وتناولت الجرائم في كل المجتمعات حتى الغريبة عنها، وباحترافية عالية كأنها عاشت سنينا طويلة في تلك المجتمعات البعيدة.

اشتهرت أجاثا بكتابة قصص الغموض الأكثر شهرة بين الجمهور، وكتبت أكثر من 66 قصة بوليسية تميزت بقدرتها على خلق شخصيات خيالية، مثل شخصية الآنسة “ماربل” المخيفة التي ظهرت في 12 رواية من رواياتها، وشخصيه هيركيول بوارو، ومن أشهر أعمالها؛ “جريمة علي قطار الشرق السريع”، و”جريمة على نهر النيل”، و”الستارة”.

مولدها

ولدت أجاثا كريستي في بلدة توركوي البريطانية عام 1890 من أب أمريكي وأم إنجليزية، وصفت كريستي طفولتها في رواياتها بأنها “سعيدة جدا”، وكانت محاطة بمجموعة من النساء منحنها الشخصية القوية والمستقلة منذ سن مبكرة. تقول كريستي عن نفسها -في حوارها الفريد الذي أجرته معها الكاتبة جانيت مورغان وحولته إلى كتاب عن سيرتها الذاتية: “إنني قضيت طفولة مشردة إلى أقصى درجات السعادة، تكاد تكون خالية من أعباء الدروس الخصوصية، فكان لي متسع من الوقت لكي أتجول في حديقة الأزهار الواسعة وأسيح مع الأسماك ما شاء لي الهوى! ويرجع الفضل في ذلك إلى والدتي التي سهلت اتجاهي إلى التأليف، فقد كانت سيدة ذات شخصية ساحرة، وذات تأثير قوي وكانت تعتقد اعتقاداً راسخاً أن أطفالها قادرين على فعلِ كلِ شيء”.

أما عن اتجاهها للكتابة المرعبة، فتقول: “ذات يوم وقد أصبت ببرد شديد ألزمني الفراش قالت لي أمي: “خير لكِ أن تقطعي الوقت بكتابة قصة قصيرة وأنت في فراشك”، وعندها حاولتُ ووجدت متعة في المحاولة، فقضيت السنوات القليلة التالية أكتب قصصاً قابضة للصدر! يموت معظم أبطالها! كما كتبت مقطوعات من الشعر ورواية طويلة، احتشد فيها عدد هائل من الشخصيات بحيث كانوا يختلطون ويختفون لشدة الزحام، ثمَّ خطر لي أن أكتب رواية جرائم، ففعلت واشتد بي الفرح حينما قبلت الرواية ونشرت، وكنت حين كتبتها متطوعة في مستشفى تابع للصليب الأحمر إبان الحرب العالمية الأولى”.

اشتغلت كريتسي في المستشفى خلال الحرب العالمية الأولى قبل زواجها وتكوينها أسرة في لندن. وقالت إن بدايتها غير ناجحة في نشر أعمالها. ولكن في عام 1920 تم نشر روايتها (قضية غامضة) في صحيفة رئيس بدلي ومن هنا كانت انطلاقة مسيرتها الأدبية.

حياتها المرفهة

تلقت أجاثا تعليمها في البيت مثل فتيات كثيرات من العائلات الميسورة حسب التقليد آنذاك، ثمَّ التحقت بمدرسة في باريس وجمعت بين تعلم الموسيقى والتدريب عليها وبين زيارة المتاحف والمعارض الكثيرة في فرنسا، وعادت إلى إنجلترا وكانت في العشرينات من عمرها، حتَّى كان زواجها الأول من العسكري البريطاني (أرتشي كريستي) عام 1914 ومنه أخذت لقبها الذي لازمها طوال حياتها، حتى انفصالها عنه بالطلاق بعد أن أنجبت منه ابنتها روزلند.‏

وفي عام 1930 تزوجت أجاثا كريستي للمرة الثانية من ماكس مالوان عالم الآثار المعروف بعد أن التقت به في إحدى سفراتها إلى الشرق حيث عاشت معه في سوريا والعراق عندما كان يقوم بأبحاثه، وكان عمرها يومذاك 39 سنة بينما كان عمره 26 سنة.

وقد أتاح لها زواجها الثاني أن تزور معظم بلاد الشرق الأدنى والأعلى، فتجولت في بلاد الشام العراق ومصر وبلاد فارس، ووفَّر لها هذا التجوال فرصاً ممتازة لكتابة أجمل رواياتها وقصصها المليئة بالأسرار، المفعمة بالغموض، المعتمدة ليس على مواقع الحدث في بلاد الشرق الساحرة فقط وإنما على خيال الكاتبة الجامح، أيضاً ولغتها المتدفقة السيالة وقدرتها الفريدة على ابتكار الشخصيات الغامضة والمثيرة وتحريكها عبر الرواية باتجاهات مختلفة تُذهل القارئ.

اشتغالها بالكتابة

انضمت كريستي رسمياً إلى بعثة التنقيب البريطانية في نينوى شمال العراق برئاسة الدكتور تومسن كامبل، ثمَّ إلى بعثة الأربجية عام 1932 برئاسة زوجها. وكانت فضلاً عن جهدها التنقيبي، تجد الوقت الكافي للكتابة، حتَّى إنه حين لا يتوفر لها السكن في الموقع الأثري، تنصب لها خيمة خاصة بعيداً قليلاً عن ضجيج الحفر حيث تعمد إلى كتابة رواياتها وقصصها داخلها.

وعن حياته المشتركة مع أجاثا، يقول مالوان في مذكراته:‏ (عشنا في بيت صغير ذي حديقة أسفل تل النبي يونس، وضم التل أيضاً مستودع أسلحة سنحاريب ـ الملك الآشوري ـ وكان الوصول من بيتنا إلى قمة نينوى تل قويسنجق يستغرق عشرين دقيقة على ظهور الخيل، ومن القمة نطل على مشهد شامل للمناظر الطبيعية والتاريخ، ونطل من ارتفاع مئة قدم فوق السهل إلى الغرب على الضفاف الشديدة الانحدار لنهر دجلة السريع الجريان ليس هذا فقط، إنما كانت كثيراً ما تتهيأ لشتاء الموصل الطويل بشراء كميات من الخشب التماساً للدفء كلما اقترب موسم البرد وكانت تدفع بسخاء لقوافل الأكراد التي تبيع الخشب”.

ويستطرد: “وفي هذا البيت قليل الأثاث احتاجت أجاثا مرَّة لمنضدة تكتب عليها روايتها (اللورد ـ إيجوير يموت) فقصدت سوق الموصل واشترت بثلاث باونات منضدة، اعتبرها الدكتور كامبل رئيس هيئة التنقيب تبذيراً.

أجاثا العربية

أقامت أجاثا كريستي شهر العسل مع زوجها السير مالون في قرية عين العروس على ضفاف نهر البليخ وغابات عين العروس الجميلة وتلالها ألأثرية الرائعة حيث كان زوجها في مهمة أثرية في الجزيرة السورية في زياراتها المتكررة إلى سوريا برفقة زوجها عالم الاثار الذي كان يعمل في إحدى المواقع الأثرية في شمال شرق سورية. سكنت اجاثا كريستي في فندق بمدينة حلب وهو (فندق بارون) الذي كان مقصد المشاهير وخاصة من أوروبا والقادمين على متن قطار الشرق السريع الي حلب وكتبت قصتها الشهير (جريمة في قطار الشرق السريع) أثناء مكوثها في حلب وما تزال ذكراها في إحدى زوايا الفندق العريق فندق بارون إلى اليوم وفتنت بحلب وعظمة قلعتها وأسواقها الشرقية البديعة وتجولت في التلال الأثرية في وسط وشرق سوريا.

لقد تجولت كريتسي في سوريا ومصر والأردن وفلسطين وبلاد فارس، وكان لها في كل موقع أثري رواية أو قصة، منها قصتها (لؤلؤة الشمس) التي مثلت تسجيلاً لزيارتها مع زوجها إلى (البتراء) في حدود عامي 1933 ، 1934. أمَّا رواية (موعد مع الموت) وفي فصلها الخامس بالذات فتصف روعة بناء المسجد الأقصى وعظمة القبة المُشيدة على صخرة مرتفعة وجمال نقوشه. وكذلك حديثها مع الدليل العربي الذي رافقهم في أحد التلال الأثرية في الجزيرة السورية، وكذلك فعلت في قصتها (نجمة فوق بيت لحم) عام 1965. ولقد زارت الكاتبة مصر ودرست حضارتها وتاريخها وكتبت الرواية المعروفة (موت على النيل) التي حولت إلى مسرحية عام 1946 بعنوان (جريمة قتل على النيل) كما كتبت الرواية الثانية (الموت يأتي في النهاية) وذلك عام 1945، كما كانت قد كتبت مسرحية (أخناتون) الملك المصري الذي فرض ديانة جديدة، وقد أعدت أجاثا كريستي لكتابة هذه المسرحية منذ زيارتها (الأقصر) جنوب مصر عام 1931، واستعانت بخبرة علماء الآثار في رسم شخوص المسرحية التي أصدرتها إحدى دور النشر عام 1973.

وعند بلوغها سن الخامسة والثمانين كانت قد أنتجت (85) كتاباً بمعدل كتاب لكل سنة، وهو رقم عالي يعكس القدرة على الإنتاج والكتابة، ويتساءل زوجها (مالوان) في مذكراته: (كيف نفسر هذه الظاهرة؟ إنها ناشئة عن حالة دائمة من الخيال الجامح).‏

حادثة اختفائها

من المواقف المهمة في حياتها، أنه في عام 1926، اختفت أجاثا كريستي لمدة عشرة أيام، ولم يعرف أحد سبب ذلك الاختفاء ، لكن التكهنات عزت العملية إلى خوفها من فقدان والدتها أو تأثرها بفقدانها، لكن جانيت مورغان التي كتبت سيرتها عام 1985 أرجعت السبب إلى صدمة عاطفية كبيرة بسبب إخفاق زواجها من أرتشي كريستي، وقد أخفت الكثير من ملابسات طلاقها وكذلك تفاصيل اختفاءها الذي تقول مورغان إنه من هول صدمتها، فقد فقدت أجاثا الذاكرة جزئياً، لدرجة أنها تركت سيارتها على الطريق، وذهبت إلى إحدى الفنادق وكانت تسأل الناس من أكون إلى أن تعرف عليها أحد الأقارب.

منهجها الكتابي

في قصص أجاثا ورواياتها ومسرحياتها، نجد ذلك الكم الهائل من الألغاز والحبكات الغامضة، سواء كان ذلك في البناء القصصي أو المعمار الدرامي أو في الحوار أو الشخصيات، بل حتَّى في اختيار مواقع الأحداث التي غالبًا ما تكون مشوقة: مواقع أثرية، مدن شرقية، معابد، قصور ذات طابع، فنادق مميزة، قطارات أو طائرات، مضايق صحارى مقطوعة، أنهار لها تاريخ.

وفي العادة تلجأ الكاتبة إلى تكنيك قصصي يستند إلى الحيلة أو الخدعة كأسلوب إثارة وتشويق مفعم بالغموض، محرك لخيالها الخصب، يستدرج لغتها السيالة الانسيابية في تيار متصل من السرد النثري المجرد والمتصف أحياناً بالإطناب والإطالة، ولكي تبعد الملل عن القارئ؛ تعمد إلى إقحام بعض الألغاز والرموز التي تحتمل التأويلات والتفسيرات المتضادة في آن معاً، وبذلك تشد القارئ إلى متابعة الحدث دون أن تبتعد به عن المحور الأساسي للبناء الدرامي الذي خططت له بإتقان، لكي لا يخرج عملها مسطحاً فجًا.‏

وفي حالات قليلة تعمد إلى إدخال واقعة من حياتها في رواية أو قصة بعد إجراء تمويه يضيع فرصة الكشف عن حقيقتها، من ذلك ما أشار إليه مالوان في مذكراته فيما يخص رواية (التجويف) الممسرحة، يقول “وهناك إشارة ترتبط بحدث في حياتي أود أن أذكرها، يقول سير هنري في الرواية: “هل تتذكرين يا عزيزتي أولئك الأشقياء الذين هاجمونا في ذلك اليوم في الجانب الآسيوي من البسفور؟ كنت أصارع اثنين منهم كانا يحاولان قتلي، وما الذي فعلته لوسي؟ أطلقت رصاصتين، لم أكن أعرف أنه لديها مسدس… كانت أصعب نجاة في حياتي”. هذه حكاية حقيقية والفرق الوحيد أن أجاثا على خلاف الليدي أنكاتيل في الرواية كانت قد سلَّحت نفسها ليس بمسدس بل بصخرة مدورة.

لم تأخذ أجاثا كريستي كروائية جرائم، أحداث رواياتها من سجلات الشرطة، أو المحاكم، كما فعل غيرها من كتَّاب روايات الجرائم أمثال روايات (مع سبق الإصرار والترصّد) ترومان كابوت 1967 و(أغنية الجلاد) نورمان ميللر 1979 و(إني اتهم) غراهام غرين 1981 و(جرائم قتل في أطلنطا) جيمس بولدوين 1985 وكذلك قصص سومرست موم المختلفة.‏

منهج مميز

لكن رغم ذلك، فإن هناك منهجًا ظلّ مميِّزًا لكتابات أجاثا، إنها تبتعد عن التأويل الرمزي للحدث ومنح القارئ متعة الوصول إلى التأويل الواقعي وفك طلاسم الغموض والغوص في بحر التشابك الساحر لعلاقات شخوص الرواية ببعضهم من جهة وبالحدث من جهة أخرى، وتضع الجميع: القارئ والحدث وأبطال الرواية، تحت رهبة قدسية المكان الذي اختارته مسرحاً لأحداثها وغالباً ما يكون هذا الموقع كما ذكرنا أسطورياً ساحراً!

وميزة أخرى: أنها تحرك أبطالها وشخوصها وفق صيغ دراماتيكية مزدحمة بالخلفيات والتفاصيل، وتتصاعد حرارة الأحداث لتصدم القارئ بنهايات مفجعة، بيد أن الكاتبة تقدم تراجيديا الفجيعة على أنها حدث عابر يتقبله القارئ المستمتع على أنه أمر لابدَّ منه! هكذا هي الحياة برأي أجاثا كريستي: “تيار جارف متصل مفعم بالتفاصيل والمفردات لا تتوقف لانتظار أحد أو للحزن عليه، وكأنما بذلك تنبأت بنهاياتها”.

لقد عُرفت أجاثا كريستي بأنها “ملكة أدب الجريمة” على عدد كبير من الأشكال الكلاسيكية التي عرضتها، أو التي قالت إنها قدمت المثال الأكثر للشهرة. وقد كانت مسيرة كتبها على النحو الآتي: حصول جريمة قتل، العديد من المشتبه بهم، أسرار مخفية، والمحقق يكتشف هذه الأسرار تدريجيًّا على مدار القصة، واكتشاف الأسرار الأكثر إثارة للصدمة تكون في النهاية. وأيضًا يتم جمع المشتبه بهم وكشف الحقائق لهم بشكل منطقي.

أفول الكاتبة

كان رحيلها يوم 12 كانون الثاني 1976، ويصفه مالوان بقوله: “عندما وصلت إلى الصفحات الأخيرة من هذه المذكرات توفيت عزيزتي أجاثا بسلام بينما كنت أدفع كرسيها ذي العجلات إلى حجرة الجلوس بعد تناول طعام الغذاء… لا يعرف سوى القليلون معنى العيش بانسجام بجانب ذهن واسع الخيال مبدع يلهم الحياة بالحيوية”.

لقد كانت أجاثا كريستي، روائية مدهشة حقاً، امتلكت لغتها وأسلوبها وطريقتها في بناء الرواية، واحتفظت بذاكرة قوية تخدم تعاقب الأحداث في رواياتها وقصصها وتتفنن في تحريك أبطالها وفق السياق الدرامي الذي اختارته لكل رواية… وقد استخدمت الألغاز والخرافات والحقائق التاريخية أو المعاصرة على حد سواء وبنفس الدرجة من الوضوح أو الغموض.‏

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى