تمكن الجيش الليبي التابع للحكومة الشرعية، من قلب معادلة الصراع رأسا على عقب، وانتقل من الدفاع إلى الهجوم، بعد أن أطلق عملية “عاصفة السلام”، والتي أثمرت تحرير كامل مدن الساحل الغربي، وقاعدة الوطية الجوية، وبلدات في الجبل الغربي، و3 معسكرات استراتيجية بطرابلس، ودمرت 9 منظومات للدفاع الجوي بانتسير، وأجبرت مرتزقة شركة فاغنر الروسية على الانسحاب من جنوبي العاصمة، بعد أن تسيد سماء المعركة.
وفي ظل تعثر ثورات الربيع العربي في مصر وسوريا واليمن، شكّل التقدم الثوري الليبي بادرة أمل منتظرة لشعوب الربيع العربي، سيما مع استمرار تدفق الأخبار المبشرة بتخذل قوات حفتر، واضطراب معكسر مؤيديه، وانسحاب مئات المرتزقة من محاور القتال في العاصمة الليبية.
الواقع الآن
إجمالا، فإن متتبّع سير المعارك منذ نحو ثلاثة أشهر ونصف، سيدرك حتما أن حفتر خسر الجناح الغربي للمعركة الممتد من قاعدة الوطية الجوية (170 كلم جنوب غرب طرابلس) إلى مدينتي صبراتة (70 كلم غرب طرابلس) وصرمان (60 كلم غرب العاصمة).
كما خسر قلب الجيش في مدينة غريان (100 كلم جنوب طرابلس)، الذي تصله الإمدادات من بنغازي (شرق) إلى قاعدة الجفرة الجوية ومنه إلى غريان، وعبرها تتوزع المؤن عبر محاور القتال في منطقة ورشفانة وجنوبي طرابلس، وغالبية القوات في هذه المنطقة من شرق ليبيا ومن المرتزقة التشاديين والسودانيين.
ولم يبق لقوات حفتر سوى الجناح الشرقي، الممتد من ترهونة مرورا ببلدة السبيعة إلى غاية محاور القتال جنوبي طرابلس، وغالبية هذه القوات تنتمي إلى اللواء التاسع ترهونة (غرب) بالإضافة إلى قوات من الشرق، والإمداد يأتيها من بلدة بني وليد عبر مطارها المدني، أو من خلال طريق بري طويل يربطها بقاعدة الجفرة الجوية مرورا ببلدة الشويرف (450 كلم جنوب طرابلس).
وحاليا، تتركز قوات حفتر بمنطقة قصر بن غشير (الضاحية الجنوبية لطرابلس)، وتتقاسم السيطرة مع قوات الوفاق على مناطق مطار طرابلس القديم (خرج من الخدمة في 2014)، وعين زارة، وخلة الفرجان، ووادي الربيع، والزطارنة، جنوبي طرابلس.
تيه حفتر بين مؤيديه
بعد سيطرة قوات الوفاق على غرفة عمليات قوات حفتر في مدينة غريان، كان من المتوقع أن تنقل الأخيرة غرفة القيادة والتحكم إلى مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، باعتبارها مركز الإمداد الرئيسي لمحاور القتال جنوبي طرابلس بعد سقوط غريان، لكن حفتر نقل غرفة العمليات إلى قاعدة الجفرة الجوية، البعيدة عن مركز المعارك بنحو 600 كلم باتجاه الجنوب الشرقي.
عيّن حفتر، مبروك الغزوي قائدا لغرفة عمليات طرابلس، خلفا لـ”عبد السلام الحاسي”، بعد هزيمته في غريان، أما صالح اعبودة، فيقود غرفة العمليات المتقدمة، والتي لم يعلن بعد عن مركزها. وعدم نقل غرفة العمليات إلى ترهونة، يؤكد ما هو متداول إعلاميا عن خلافات بين اللواء التاسع ترهونة وقوات حفتر القادمة من الشرق، ويعكس عدم ثقة بين الطرفين، وخشية الأخيرة من تعرضها لطعنة في الظهر مثلما حدث لها في غريان.
وأشار إلى هذا الأمر قائد غرفة عمليات قوات الوفاق في طرابلس أحمد بوشحمة، في تصريحات إعلامية، قائلا: “هناك خلافات حادة بين قوات حفتر القادمة من الشرق ومليشيات الكاني (اللواء التاسع ترهونة)، ما أدى لانسحاب إحدى كتائب حفتر”، من أحد محاور القتال جنوبي طرابلس.
لم يعد يملك الكثير
قوات حفتر إجمالا خسرت معركة طرابلس، ولم يبق سوى اللواء التاسع ترهونة يقاتل في عناد، رغم خلافاته العميقة مع قوات حفتر القادمة من الشرق، إلا أن انسحابه من المعركة حاليا، يعني أن قوات الوفاق ستتفرغ له بعد القضاء على حلفائه في الشرق، ولذلك فإن مواصلة القتال مسألة حياة أو بموت بالنسبة للواء التاسع.
كما أن حفتر، المعروف بعناده، من المستبعد أن يقرر الانسحاب من تخوم طرابلس، رغم تكبد قواته مئات القتلى، وربما آلاف الجرحى ومئات الأسرى، لأن ذلك سيمس بكبريائه واعتداده بنفسه، ويهز بصورته أمام أنصاره في الداخل وحلفائه في الخارج.
ولن يقف الأمر عند هذا الحد، فقد يؤدي إلى حدوث انشقاقات وتمرد بصفوف قواته، وقد تبحث الدول الداعمة له عن بديل لخلافته على رأس القوات، ويعد عارف النايض، سفير ليبيا في الإمارات، أحد هذه الخيارات التي يتم الترويج لها حاليا “خليفة” لحفتر، لذلك فمعركة طرابلس باتت قضية حياة أو موت للأخير.
تعافي الربيع العربي
الإمارات ومصر وفرنسا، أكبر الداعمين لحفتر، ينظرون لمعركة طرابلس بنظرة أكثر شمولية، فهزيمة حفتر تعني لهم انتصارا للربيع العربي الذي كاد يأفل نجمه، قبل انبعاث الموجة الجديدة في الجزائر والسودان، وأي تعثر لقوات حفتر في ليبيا، سيشكل دعما إضافيا للإسلاميين في تونس.
هناك مخاوف كبيرة لدى الإمارات ومصر، من اكتمال “هلال الربيع العربي”، الممتد من الجزائر إلى السودان عبر تونس وليبيا، والذي قد يصل إلى بقية البلدان العربية. أما باريس فرهانها على معركة طرابلس، مرتبط برهانها على حفتر في قتال الجماعات “الإرهابية” والمتشددة، والتي لها امتدادات خاصة في شمالي مالي والنيجر وتشاد، التي تتواجد بها قوات فرنسية.
وخسارة معركة طرابلس يعني انهيار مشروع حفتر الذي استثمرت باريس فيه الكثير، مما قد يحوّل ليبيا مجددا إلى “غابة من المليشيات”، والجماعات الإرهابية على غرار “داعش” و”القاعدة”، تجيد الاستثمار في الفوضى.
حرب على الهوية
بناء على ذلك، يستبعد أن تنسحب قوات حفتر، في القريب العاجل، بالنظر إلى مصيرية معركة طرابلس، خاصة وأن قوات حفتر لديها تمركزات قوية في مدينة ترهونة وفي قاعدة الوطية، فضلا عن حاضنة شعبية بمنطقة ورشفانة، وشطر من مدينة الزنتان (140 كلم جنوب طرابلس)، وبالتالي فإن قوات حفتر من المنطقة الغربية ستقاتل بشراسة أكثر من القوات القادمة من الشرق، ما سيطيل عمر المعركة.
ويبدو أن زيارة المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، إلى بني وليد، التي حافظت طيلة 8 سنوات على حيادها، يأتي في إطار قيامها بلعب دور في المصالحة بين اللواء التاسع ترهونة وقوات الوفاق. وفي حال انسحاب الأول من المعركة، فلا يمكن لقوات حفتر الصمود طويلا جنوبي طرابلس، كما أن تكثيف الضغوط الأممية والدولية على الدول الداعمة لحفتر من شأنه دفعها إلى التراجع خطوات إلى الوراء في مشروع تدمير ليبيا.