هل تتذكر الفوضى القاتلة في أيقونة الرعب السينمائي العالمي “house of dead” بشخصياته الغريبة وخيال مؤلفه الغارق في التركيب والتعقيد؟ يقول المخرجون إن هذا الفيلم استغرق في إنتاجه أربع سنوات كاملات من العمل المونتاجي المعقد، ليخرج بهذه الحالة السريالية الميتافيزقية المرعبة.. ما رأيك في عمل يقدم لك الجرعة ذاتها لكن دون معالجة تقنية، وأمام عينك مباشرة، على خشبة المسرح؟ مرحبا بك في “هدوء نسبي”، أول مسرحية للرعب في مصر والعالم العربي.
في 8 شارع عماد الدين بوسط القاهرة، يقع بيت مهجور، قرر فريق “تياترو للمسرح المستقل” أن يكون مسرح الليلة الأولى من تجربتهم المرعبة «هدوء نسبي» ليتوج العرض الأول منتصف أبريل الماضي بحضور لافت للعمل المسرحي الذي أتي بتأليف وإخراج وسينوغرافيا عمر المعتز بالله.
الجمهور ضمن الأبطال
لا يُقدم العرض على خشبة مسرح، والجمهور لا يجلس على كراسي، بل يتنقل الحضور لمدة 60 دقيقة داخل البيت المهجور من أجل مشاهدة كل تفاصيل العرض، تجربة فريدة ورائدة يحضرها 100 متفرج فقط كل يوم على مدار 5 أيام متتالية من العرض المستمر.
العرض حصل على موافقة الرقابة تحت تصنيف +16؛ لأن مكان العرض والمشاهد الموجودة فيه لا تصلح أن يشاهدها أطفال، لكن لا توجد مشاهد خارجة فيه، كما أن الجمهور المشارك في العرض يتركون هواتفهم، ويسلمهم القائمون على العمل عددًا من الأدوات دون أن يُشرح لهم سببها، لكن حتمًا يكون لهذه الأدوات ضرورة يكتشفها المشاهدون داخل العرض.
تفاصيل العرض
في اللحظة الأولى للعرض، يرتفع صوت عال يهز أركان المنزل المهجور (مسرح العرض): “من الآن فصاعدًا، لا شيء مما حولك طبيعي أو عقلاني”، ليترك الجمهور يستكشف منطقية خاصّة لما سوف يجري.. يبدأ العرض بضربات منتظمة بالساطور على عظمة فخذ حيوان مجهول، وفي الخلفية موسيقى مرعبة يتخلّلها مواء قط غاضب. تكتشف فجأة أنك ملقى وسط مشهد يجسد الردة إلى البدائية؛ ملابس الفتاة البشرية والقذارة والعظام الحيوانية المفتتة والإضاءة الشمعية واللوحة الفوتوغرافية النيجاتيف على الحائط ملطخة بالدماء.
فجأة، يهبط مسخ له رأس خنزير، وأنفاس حيوانية ثقيلة متحشرجة، ونظرات مقلقة لا مبالية.. يتقدم في رتابة ويفتح بابًا وينزل سلمًا، وتتبعه الفتاة البشرية، وهذا هو الطريق إلى الفضاء المسرحي للعرض، منزل آخر أسرة باقية من البشر الممسوخين على الأرض قبل نهاية الكون وانتهاء التطور التكنولوجي.
تسأله الفتاة: “ماذا جرى له؟”، يجيبها: “لعله مات!”.. هكذا تقرر الفتاة البشرية الانتفاع من جثة المسخ الذكري الميت، وترفعه على خطاف اللحم لتعلقه تمامًا كما علقت حيوانًا ضخمًا مذبوحًا من قبل. تظل ترفعه وتشحذ سكاكينها الطويلة لتبدأ في تقطيعه، تاركة إيانا في هاجس أن يكون عظم الفخذ الذي رأيناه في أول الدخول: عظم مسخ راحل آخر.
عناصر العمل
الموسيقى الممتدة على مدار العرض جاءت مرعبة وحزينة، ونجحت في أداء مهمتها في تعميق حالة الإحباط والشجن والإحساس بالضياع، وتعامل صنّاع العمل مع عناصر العرض بقبضةٍ من حديد كي يحافظ على هذا المستوى من الهدوء الظاهريّ على مستوى الصّوت والإضاءة وحركة الشخصيات وأصواتها، ومِن ثمّ إيقاع العمل ككل.
ورغم أن أجواء العمل تضعك في حالة من الهوس بالتهديد والترقب، وتنتظر سماع صرخة من إحدى الشخصيات أو انتفاضة عليا من الموسيقى والمؤثرات الصوتية.. إلا أن هذا لا يحدث، وربما يكون هذا هو سبب اختيار «هدوء نسبي» كعنوان للعرض.
مسخ برأس تلفاز
العرض يبحث عن الموت، ينتظره، يحاول أن يقنعنا بأنه ما زال هناك وقت لنجاتنا من الانمساخ التدريجي البطيء في التكنولوجيا التي ستدمر حياتنا، هكذا يجسد مشهد النهاية حين يطل مسخ برأس تلفاز في موقع الدمار الأخير، ليتأمل الحضور واحدًا تلو الآخر بإيماءات روبوتية مستفزة، وكأنه يصرخ فينا: نعم، أنا الفاعل.
ومع نهاية العرض، لا يحصل الجمهور على حالة من “التطهير” كما هي عادة العروض المسرحية؛ وإنما يتشرب المشاهدون جرعة طويلة المفعول من “التوريط” في أسئلة الذات والوجود والمصير، ليخرجوا بعدها وعيونهم ملأى بالأسئلة، يحملون معهم أساور طبية تسلموها مع المعدات الوقائية قبل العرض، ربما لتذكرهم برسالة يرسلها صناع العمل لكل منهم: “أنت أيضًا في خطر. لا تنس هذا أبدا”.