بعض الأعمال الإبداعية ينالها الخلود، ويتبارى الممثلون في تجسيدها جيلا بعد جيل.. هذا بالفعل ما حدث مع رائعة المؤلف المسرحي والسيناريست المصري سعد الدين وهبة، “سكة السلامة“، التي تم تجسيدها في ثلاثة أعمال مسرحية مختلفة، بمشاركة نجوم الأجيال المشاركة في كلٍّ من نسخها.
البداية كانت عام 1964، بإﺧﺮاﺝ العملاق المسرحي المصري سعد أردش، وبطولة سميحة أيوب (زوجة المؤلف) وتوفيق الدقن، وشفيق نور الدين، وعبدالمنعم إبراهيم، وعبدالسلام محمد، ورجاء حسين.. وتدور قصتها حول أتوبيس يتوه بركابه في الصحراء الغربية المصرية، وتقدم المسرحية النماذج البشرية المتمثلة في ركاب الأتوبيس وأخطاء وذنوب كل راكب وعندما يوشكوا على الموت جوعًا وعطشًا يعلن كل منهم توبته ويقرر اﻹصلاح من نفسه. (لمشاهدة المسرحية: هنا)
- النسخة الأولى من المسرحية
المرة الثانية، والأقوى حضورًا، كانت مطلع الألفينيات، وحملت عنوان “سكة السلامة 2000“، بإخراج وبطولة الفنان المصري محمد صبحي، وهي صياغة جديدة للمسرحية التي تدور أحداثها حول مجموعة من المسافرين داخل أتوبيس إلى مدينة شرم الشيخ المصرية، يضلوا الطريق ويصبحوا بمفردهم في صحراء سيناء الشاسعة الحدودية مع الاحتلال الصهيوني، ليجدوا أنفسهم مضطرين للاختيار بين الموت أو طلب المساعدة من جنود الاحتلال.
العرض المسرحي الأخير للعمل، جاء بعنوان “سكة السلامة 2016“، على مسرح الرواد بالقاهرة، ببطولة الفنان بدران بدري، ومن إخراج صفى الدين شكرى.. وتدور قصتها في البحر، وتحكي قصة النماذج البشرية المتمثلة في ركاب سفينة أوشكوا على الموت جوعًا وعطشًا بعد أن ضلت السفينة طريقها، ليعلن كل منهم توبته ويقرر الإصلاح من نفسه.
- لا للتطبيع
“محمد صبحي يصرخ ضد التطبيع في سكة السلامة”.. بأمثال هذا العنوان المثير، قدمت المنصات الإخبارية في مارس من العام 2001 أول كواليس العمل المسرحي المرتقب، والذي يجسد فيه دور البطولة، الفنان محمد صبحي الذي كان اسمه متصدرًا الساحة السياسية بعد الإعلان عن مشاركته في تصوير مسلسل مضاد للصهيونية تحت اسم “فارس بلا جواد” الذي انطلق بثه في العام التالي لبدء عرض المسرحية، عام 2002.
وتستعرض المسرحية سلبيات كل شخصية من أبطالها، والتي تُظهرها هذه الظروف العصيبة، وعندما يوشكوا على الموت، يبدأ كل منهم في التكفير عن خطاياه، لكن محمد صبحي طعمها بطابع سياسي عن الصراع العربي الصهيوني، ويوضح مفهومه عن السلام من خلال ديناميكية الشخصيات في المسرحية.
وفي مؤتمر صحفي عُقد في بيروت التي شهدت أول عرض للمسرحية بمسرح قصر الفرساي في مطلع مارس 2001، قال صبحي إنه سيتناول في المسرحية قضية التطبيع مع الاحتلال، معتبرًا أن رسالة المسرحية الرئيسة هي أن “شخصياتها الناقصة سوف يظهر أنها ارتكبت كل الشرور والأخطاء، لكنها رفضت التطبيع مع إسرائيل”.
طاقم العمل
شارك في النسخة الثانية للعمل المسرحي الذي عُرض تلفزيونيًا، الفنان محمد صبحي في دور قرني الريجيسير.. وصبحي، ممثل مصري من مواليد 3 مارس 1948 بمحافظة القاهرة المصرية، تخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل والإخراج عام 1971، ثم عيّن معيدًا في المعهد، وله أعمال فنية متعددة شملت مسرحيات وأفلام ومسلسلات.
ومن أنجح المسرحيات التي قدمها محمد صحبي “الجوكر”، “أنت حر”، “الهمجي”، “البغبغان”، “تخاريف”، “هاللو شلبي”، “ماما أميركا”، “عائلة ونيس”، “لعبة الست”، “روميو و جوليت”، “سكة السلامة 2000” التي يتناولها التقرير.
كما شارك في العمل الممثلة سيمون في دور سوسو الراقصة، وشعبان حسين في دور سليمان سائق الأتوبيس، وخليل مرسي في دور فكري عبد السلام الصحفي الموافق على التطبيع، ومحمود أبو زيد في دور عثمان عبد الموجود نائب مجلس الشعب، وأيمن عزب في دور حسين أبو السعود رئيس مجلس إدارة فاشل، وحمدي السيد في دور أبو المجد الشبراوي المحامي المرتشي، ومجدي صبحي في دور محمد محيي الدين الزوج الخائن، وعبير فاروق في دور الزوجة الخائنة، أمل إبراهيم في دور السيدة المتصابية مدام جلنار، وعبدالله مشرف في دور ساكن الصحراء، وشوقي طنطاوي في دور الأسطي عويس، ومحمد حسن في دور فتوح فتحي فتوح، وأيوب أحمد في دور إسماعيل البحراوي رجل الأعمال العجوز.
رسالة المسرحية
تُظهر المسرحية الجوانب السيئة الخفية في الأبطال المشاركين، ومحاولاتهم لإعلان التوبة الصادقة حينا والمصطنعة أحيانا أخرى، كقربان توسل للنجاة من التيه الذي تعرضوا له في الصحراء بعدما ضلوا طريقهم، لكن ضميرهم المتقلب لم يستطع تحمل جريمة طلب المساعدة من جنود الاحتلال، في إشارة إلى التطبيع.
وفي رمزية احترافية للنخبة الثقافية والسياسية الداعية للتطبيع مع الاحتلال، جاء دور الصحفي المرموق صاحب النفوذ الواسع، الذي ظل على طول المسرحية يتغنى بالمباديء والأخلاق، لكنه سرعان ما كان أول المبررين للجوء إلى جنود الاحتلال، بينما رفضت الراقصة والريجيسير قرني (محمد صبحي) أن يوصموا بعار الخيانة.
وتطرح المسرحية في نهاية العرض سؤالا مفاده أنه إذا كانت هذه الشخصيات الساقطة في المجتمع رفضت التطبيع مع الاحتلال، فكيف سيكون موقف الشرفاء؟.. أو على حد وصف بطل المسرحية نفسه: “منذ نحو ثلاث سنوات خرجت أصوات عدة في المنطقة العربية تدعو إلى التطبيع مع العدو الصهيوني في أكبر هجمة لمجموعات تقول إنها محبة للسلام، لذلك جاءت مسرحية سكة السلامة لتشكل صرخة ضد التطبيع”.
تقييم العمل
المسرحية شابها عدد من الهنات التي كان تجاوزها سيسهم في خروجها بشكل أكثر احترافية، مثل الحواريات الطويلة التي استمرت في بعض مشاهد المسرحية قرابة النصف دقيقة من الحديث المتواصل للمثل الواحد، فضلا عن المقالية التي برزت في بعض مشاهدها سيما المتعلقة بالقضية الفلسطينية لحظة اكتشاف مقبرة الجنود الشهداء.
لكن وبشكل عام، فالعمل في مجمله متميز من حيث مادته وفكرته والرسالة التي حملها وتوقيت عرضها، وقد نالت استحسان الجماهير وقت عرضها، سيما وأنها جاءت ترجمة للأصوات القوية الرافضة لما عُرف بـ ” مبادرة السلام العربية”، وهي مبادرة دعا إليها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز مطلع الألفينيات في قمة بيروت، بهدف تسوية القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات مع الاحتلال، وسط احتجاجات شعبية واسعة كانت تلك المسرحية أحد مرداتها الفريدة، والتي لا تزال حتى اليوم تمثل علامة مهمة في تاريخ المسرح المصري.
وفي النهاية، تعكس تلك المسرحية دور الفن الهادف في التعبير عن طموحات الشعوب ومطالباتها، كما تكشف عن الحالة الراهنة للساحة الفنية العربية المتجاهلة للقضية الفلسطينية رغم ارتفاع وتيرة التطبيع ضمن ما بات يُعرف بصفقة القرن، مع توسع انتهاكات الاحتلال الصهيوني تجاه الشعب الفلسطيني.