ربما لم تنل شخصية نسائية في التاريخ الإسلامي حظا من الحضور والتناول في ميثولوجيا السينما العربية مثلما نالت ملكة مصر إبان الحروب الصليبية عام 1250 ميلادية، عصمة الدين أم خليل، الملقبة بـ “شجرة الدر”.. لا سيما في الأعمال الكوميدية التي ساهمت في بناء تصور مشوه عن تلك السيدة التي تصدت للشأن العام المصري في واحدة من أخطر مراحله على الإطلاق.
شجرة الدر، كانت موضوع عشرات الأعمال السينمائية العربية، أبرزها الفيلم المصري “شجر الدر” (1935- الممثلة آسيا داغر)،والفيلم المصري “وا إسلاماه” (1962-الممثلة تحية كاريوكا في النسخة العربية والممثلة سيلفانا بامبانيني في النسخة الإيطالية، والمسلسل الإماراتي “شجر الدر” (1979- الممثلة نضال الأشقر)، والمسلسل المصري “الفرسان” (1994- الممثلة نوال أبو الفتوح)، والمسلسل المصري “على باب مصر” (2006 – الممثلة نهال عنبر)، والمسلسل السوري “الظاهر بيبرس” (2005 – الممثلة سوزان نجم الدين).
فمن هي شجرة الدر؟ وما هي أهميتها التي فرضت اسمها على كل تلك الأعمال الفنية المتنوعة؟ ولماذا ألهمت خيال الكتاب والمؤلفين على مدار عشرات السنوات رغم أنها لم تتول الحكم سوى 80 يومًا؟.. هذا ما تجيب عنه “وعي للبحث والتنمية”، في السطور التالية:
تعريف:
شجر الدرّ، أو شجرة الدّر، هي عصمة الدين أم خليل، خوارزمية الأصل، وقيل أرمينية أو تركية، اشتراها الصالح أيوب قبل أن يكون سلطاناً، ورافقته في فترة اعتقاله في الكرك سنة 1239 مع مملوك له اسمه ركن الدين بيبرس، وأنجبت منه ولدًا اسمه خليل. لُقِبَ بالملك المنصور لكنه توفي في 2 من صفر 648 هـ (مايو 1250م)، وبعد ما خرج الصالح من السجن، ذهبت معه إلى مصر وتزوجا هناك.
وبعد أن أصبح الصالح سلطان مصر سنة 1240 م كانت تنوب عنه في الحكم عندما يكون خارج البلاد، إلى أن تولت عرش مصر بعد وفاته لمدة ثمانين يوماً بمبايعة من المماليك وأعيان الدولة، ثم تنازلت عن العرش لزوجها التالي، المعز أيبك التركماني سنة 648 هـ (1250م)، بعدما لعبت دوراً تاريخياً مهمًا أثناء الحملة الصليبية السابعة على مصر وخلال معركة المنصورة.
الحملة الصليبية السابعة
في أبريل 1249 م، كان زوجها، الصالح أيوب، في الشام يحارب الملوك الأيوبيين الذين ينافسونه على الحكم، لكن وصلته أخبار أن ملك فرنسا لويس التاسع(Louis IX) وصل إلى قبرص، في طريقه لمصر على رأس حملة صليبية كبيرة حتى يغزوها من منطقة دمياط على البر الشرقي للفرع الرئيسي للنيل.
وبالفعل، في يونيو 1249 م، نزل عساكر الحملة الصليبية السابعة من المراكب على بر دمياط ونصبوا خيمة حمراء للملك لويس. وانسحبت العربات التي كان قد وضعها الملك الصالح في دمياط للدفاع عنها فاحتلها الصليبيون بسهولة وهي خالية من سكانها الذين تركوها عندما رأواهروب العربات. فحزن الملك الصالح وأعدم عدداً من راكبي العربات بسبب جبنهم وخروجهم عن أوامره.
بعدها، انتقل الصالح لمكان آمن في المنصورة، وفي 23 نوفمبر 1249 م توفي الملك الصالح بعد أن حكم مصر 10 سنين، وفي لحظة حرجة جداً من تاريخها.. وهنا جاء الدور الحاسم لشجرة الدر.
ظروف عصيبة وحكمة بالغة
في تلك الظروف العصيبة، استدعت شجرة الدر قائد الجيش المصري “الأمير فخر الدين يوسف” ورئيس القصر السلطاني “الطواشي جمال الدين محسن”، وكشفت لهم عن موت الملك الصالح، وأن مصر الآن في موقف صعب من غير حاكم، وهناك غزو خارجي متجمع في دمياط.
اتفق الثلاثة أن يخفوا الخبر حتى لا تضعف معنويات العساكر والناس ويتشجع الصليبيون أكثر، ونقلت شجرة الدر جثمان الملك الصالح في مركب إلى القاهرة سرًا ووضعته في قلعة جزيرة الروضة.
وقبل أن يتوفى الصالح أيوب، كان أعطى لشجرة الدر أوراقا بيضاء مختومة باسمه حتى تستخدمها إذا مات، فبقيت شجرة الدر والأمير فخر الدين يصدران الأوامر السلطانية على هذه الأوراق. وقالا إن السلطان مريض ولا يستطيع مقابلة أحد. وكان يتم إدخال الطعام للغرفة التي كان من المفروض أن يكون نائما فيها حتى لا يشك أحد.
لم تكن شجرة الدر تطمح للحكم على ما يبدو، وهذا ما يؤكده إرسالها زعيم المماليك البحرية ” فارس الدين أقطاي الجمدار ” على حصن كيفا حتى يستدعي “توران شاه” ابن الصالح أيوب، ليحكم مصر بدل أبيه المتوفى، وبالفعل، أصدرا أمرا سلطانيا بتجديد العهد للسلطان الصالح أيوب وتنصيب ابنه توران شاه ولي عهد للسلطنة المصرية، وحلفا الأمراء والعساكر، لكن لم يتيسر لتوران شاه العودة إلى مصر، رغم بقاء اسمه صوريا حاكما للبلاد.
إدارتها العسكرية الذكية
تسربت أخبار وفاة الصالح أيوب للصليبيين في دمياط بطريقة ما، فتشجع الصليبيون وقرروا الخروج من دمياط والتوجه للقاهرة. وبالفعل، وصلوا إلى منطقة تسمى “وجديلة” على بعد حوالي 3 كليومتر من المنصورة، التي احتشد فيها الجنود المصريون الناجون من المعارك السابقة.
عرض الأمير ركن الدين بيبرس على شجرة الدر، الحاكمة الفعلية لمصر في هذا الوقت، خطة تقضى بأن يدخل الفرسان الصليبيون المندفعون نحو المنصورة في مصيدة، فوافقت شجر الدر على الخطة.
اجتمع بيبرس وفارس الدين أقطاي الذي أصبح القائد العام للجيوش المصرية، ونظم صفوف العساكر المنسحبين من جديلة داخل المنصورة وطلب منهم ومن السكان التزام السكون التام، بحيث يظن الصليبيون المهاجمون أن المدينة خالية مثل ما حصل في دمياط.
وفعلاً وقع الفرسان الصليبيون في الفخ واندفعوا إلى داخل المنصورة واتجهوا نحو القصر السلطاني حتى يحتلوه. فخرجت لهم المماليك البحرية والمماليك الجمدارية فجأة وهاجموهم من كل ناحية بالسيوف والسهام وخرج سكان المنصورة والمتطوعون وهم يرتدون خوذ من النحاس الأبيض بدل خوذات العساكر وضربوهم بكل ما أوتوا من قوة.
حاصر المماليك القوات الصليبية المهاجمة وأغلقوا الشوارع والحواري وبقي الصليبيون غير قادرين على الهروب ولم يبق أمامهم سوى الموت على الأرض أو أن يرموا أنفسهم في نهر النيل ويغرقوا فيه، وانتهت المعركة بهزيمة الصليبيين هزيمة منكرة في حواري المنصورة، وقتل منهم عدد كبير لدرجة أنه لم ينج من فرسان المعبد إلا واحد أو اثنان.
تثبيت أركان الدولة
بعد النصر، كان السلطان الاسمي للبلاد لا يزال هو توران شاه، والذي تنكّر لشجرة الدر، وبدلاً من أن يحفظ لها جميلها، بعث يتهددها ويطالبها بمال أبيه، فكانت تجيبه بأنها أنفقته في شؤون الحرب وتدبير أمور الدولة، فلما اشتد عليها، ورابها خوف منه، سافرت إلى القدس خوفًا من غدر السلطان وانتقامه.
لكن توران شاه لم يكتف بذلك، بل امتد حنقه ليشمل أمراء المماليك، أصحاب الفضل الأول في تحقيق النصر العظيم وإلحاق الهزيمة بالحملة الصليبية السابعة، وبدأ يفكر في التخلص منهم، غير أنهم كانوا أسبق منه في الحركة وأسرع منه في الإعداد، فتخلصوا منه بالقتل على يد أقطاي.
مبايعتها لقيادة مصر
وجد المماليك أنفسهم في وضع جديد؛ فهم اليوم أصحاب الكلمة الأولى في البلاد ومقاليد الأمور في أيديهم، ولم يعودوا أداة في يد من يستخدمهم لتحقيق مصلحة أو نيل هدف، وعليهم أن يختاروا سلطانًا للبلاد. وبدلاً من أن يختاروا واحدًا منهم لتولي شؤون البلاد اختاروا شجرة الدر لتولي هذا المنصب الرفيع.
أخذت البيعة للسلطانة الجديدة ونقش اسمها على السِّكة بالعبارة الآتية “المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين”.
إدارتها للدولة
وما إن جلست شجرة الدر على العرش حتى قبضت على زمام الأمور وأحكمت إدارة شؤون البلاد، وكان أول عمل اهتمت به هو تصفية الوجود الصليبي في البلاد وإدارة مفاوضات معه انتهت بالاتفاق مع الملك لويس التاسع، الذي كان أسيرًا بالمنصورة، على تسليم دمياط وإخلاء سبيله وسبيل من معه من كبار الأسرى مقابل فدية كبيرة قدرها ثمانمائة ألف دينار، يدفع نصفها قبل رحيله والباقي بعد وصوله إلى عكا، مع تعهد منه بعدم العودة إلى سواحل البلاد الإسلامية مرة أخرى.
الذكورية تحكم!
توثق كتب التاريخ ما أبدته شجرة الدر من مهارة وحزم في إدارة شؤون الدولة، فضلا عن تقربها إلى العامة وإغداقها الأموال والإقطاعات على كبار الأمراء، لكنها لقيت معارضة شديدة داخل البلاد وخارجها، وخرج المصريون في مظاهرات غاضبة تستنكر جلوس “امرأة” على عرش البلاد التي لم تعجز عن أن تنجب رجلا يتولى حكم البلاد، وعارض العلماء ولاية المرأة للحكم، وقاد المعارضة الشيخ العز بن عبد السلام، بحجة مخالفة جلوسها على العرش للشرع.
وفي الوقت نفسه، ثارت ثائرة الأيوبيين في الشام لمقتل توران شاه واغتصاب المماليك للحكم بجلوس شجرة الدرّ على سدة الحكم، ورفضت الخلافة العباسية في بغداد أن تقرّ صنيع المماليك، فكتب الخليفة المستعصم إليهم: “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلاً”.
تنازلها عن العرش
ولم تجد شجرة الدرّ إزاء هذه المعارضة الشديدة بدًا من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك، أتابك العسكر الذي تزوجته، وتلقب باسم الملك المعز، وكانت المدة التي قضتها على عرش البلاد ثمانين يوماً.
وإذا كانت شجرة الدر قد تنازلت عن الحكم والسلطان رسمياً، وانزوت في بيت زوجها، فإنها مارسته بمشاركة زوجها مسؤولية الحكم، فخضع لسيطرتها، وأرغمته على هجر زوجته الأولى، وحرّمت عليه زيارتها، وبلغ من سيطرتها على أمور السلطان أن قال المؤرخ الكبير “ابن تغري بردي”: “إنها كانت مستولية على أيبك في جميع أحواله، ليس له معها كلام”.
غير أن أيبك انقلب عليها بعدما أحكم قبضته على الحكم في البلاد، وتخلص من منافسيه في الداخل ومناوئيه من الأيوبيين في الخارج، وتمرس بإدارة شوؤن البلاد، بدأ في اتخاذ خطوات للزواج من ابنة “بدر الدين لؤلؤ” صاحب الموصل.
فغضبت شجر الدر لذلك، وأسرعت في تدبير مؤامرتها للتخلص من أيبك، فأرسلت إليه تسترضيه وتتلطف معه وتطلب عفوه، فانخدع لحيلتها واستجاب لدعوتها وذهب إلى القلعة حيث لقي حتفه هناك في 23 ربيع الأول 655 هـ (1257م).
النهاية المأساوية
أشاعت شجر الدرّ أن المعزّ لدين الله أيبك قد مات فجأة بالليل، لكن مماليك أيبك لم يصدقوها فقبضوا عليها وحملوها إلى امرأة عز الدين أيبك التي أمرت جواريها بقتلها بعد أيام قليلة، فقاموا بضربها بالقباقيب على رأسها وألقوا بها من فوق سور القلعة، فماتت في يوم 3 مايو (ايار) عام 1257 الموافق 23 ربيع الأول لعام 655 من الهجرة، ولم تدفن إلا بعد عدة أيام.
هل كانت أول ملكات الإسلام؟
هذه هي أشهر الوصوفات التي استخدمتها السينما العربية في وصف شجرة الدر، لكن الواقع أنها لم تكن أول امرأة تحكم في العالم الإسلامي، فقد سبق أن تولت رضية الدين سلطنة دلهي، واستمر حكمها أربع سنوات (634 – 638 هـ) الموافق (1236 – 1240 م). وحكمت أروى بنت أحمد الصليحي من سلالة بنو صليح اليمن من تاريخ (492 – 532 هـ) الموافق (1098 – 1138 م).
وعلى أية حال، انتهت حياة شجرة الدر على هذا النحو المأساوي، بعد أن كانت ملء الأسماع والأبصار، وقد أثنى عليها المؤرخون المعاصرون لدولة المماليك، فيقول “ابن تغري بردي” عنها: “وكانت خيّرة دَيِّنة، رئيسة عظيمة في النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البِرّ، معروفة بها”.