كتاب التاريخ لا يتسع لكل الأبطال، والحكام الطغاة لا يقبلون شراكة الزعامة، وانتصارات الحروب لا تقبل القسمة على اثنين.. ولقد ظلت حرب أكتوبر 1973، أيقونة “الجناح السياسي للجيش المصري” الذي كان مسيطرًا على حكم البلاد منذ انقلاب جمال عبد الناصر على الرئيس محمد نجيب مطلع الخمسينيات قبل تسليم السلطة للمدنيين كما كان مُخططا لثورة يوليو 1952.. ولأجل هذا، كان حضور الجنرال المصري العتيد، الفريق سعد الدين الشاذلي، مهندس نصر أكتوبر، غير مرغوب فيه من الرئيس السادات، ومن بعده حسني مبارك.
قامت دعاية السادات ومبارك لترسيخ حكمهما بين الجماهير المصرية على كونهما بطلا الحرب والسلام، وصانعانصر أكتوبر الحصريان.. لذلك كان طمس هوية الشاذلي يمثل انتصارًا على التهديد الأكبر، وسرقة لإنجاز رجل عسكري محب لوطنه وأرضه، ومستوعب لطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، ويعلم أن انتصار أكتوبر لم يكن النهاية، بل كان مجرد صافرة الانطلاق.. فهو الذي قال إن “الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع أبدي ومصيري.. والشعار الذي رفعه السادات وكرره من بعده الزعماء العرب بأن حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب، هو شعار كاذب ومضلل وانهزامي”.
مولده ونشأته:
ولد الشاذلي في أبريل 1922، بقرية ” شبراتنا” في مركز بسيون بمحافظة الغربية،والتحق بالكلية الحربية في فبراير 1939 وكان عمره وقتها 17 سنة، وتخرج برتبة ملازم في يوليو 1940 ثم انتدب للخدمة في الحرس الملكي من 1943 إلى 1949، وقد شارك في حرب فلسطين عام 1948 ضمن سرية ملكية مرسلة من قبل القصر.
انضم إلى الضباط الأحرار عام 1951، وأسس أول قوات مظلية في مصر عام 1954، وشارك في صد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وشارك في حرب اليمن كقائد للواء مشاة بين عامي 1965 ـ 1966، وشكّل مجموعة من القوات الخاصة عرفت فيما بعد (بمجموعة الشاذلي) عام 1967، والذي ظهر دورها الحيوي في أحداث النكسة.
نقطة التحول
حين وقعت نكسة 1967، كان الشاذلي برتبة لواء، ويقود وحدة من القوات المصرية الخاصة مجموع أفرادها حوالي ١٥٠٠ جندي، والمعروفة بـ”مجموعة الشاذلي” في مهمة لحراسة وسط سيناء.. ووسط أسوأ هزيمة شهدها الجيش المصري في العصر الحديث وانقطاع الاتصالات مع القيادة المصرية، وكنتيجةلفقدان الاتصال بين الشاذلي وبين قيادة الجيش في سيناء، فقد اتخذ الشاذلي قرارا جريئا، فعبر بقواته الحدود الدولية قبل غروب يوم 5 يونيو، وتمركز بقواته داخل الأراضي الفلسطينيةالمحتلة بحوالي خمسة كيلومترات، وبقي هناك يومين إلى أن تم الاتصال بالقيادةالعامة المصرية التي أصدرت إليه الأوامر بالانسحاب فورًا.
استجاب الشاذلي للأوامر، وبدأ انسحابه ليلا، وقبل غروب يوم 8 يونيو بظروف غاية في الصعوبة، حيث كان يسير في أرض يسيطر العدو تمامًا عليها، ومن دون أي دعم جوي، وبالحدود الدنيا من المؤن، استطاع بحرفية نادرة أن يقطع أراضي سيناء كاملة من الشرق إلى الشط الغربي لقناة السويس (حوالي 200 كم). ونجح في العودة بقواته ومعداته إلى الجيش المصري سالمًا، وتفادى النيران الإسرائيلية، وتكبد خسائر بنسبة 10% إلى 20%. فكان آخر قائد مصري ينسحب بقواته من سيناء.
صعوده في القيادة:
بعد هذه الحادثة، اكتسب سمعة كبيرة في صفوف الجيش المصري، فتم تعيينه قائدًا للقوات الخاصة والصاعقة والمظلات، وقد كانت أول وآخر مرة في التاريخ المصري يتم فيها ضم قوات المظلات وقوات الصاعقة إلى قوة موحدة هي القوات الخاصة.
وفي 16 مايو 1971، بعد يوم واحد من إطاحة الرئيس السادات بأقطاب النظام الناصري، فيما سماه بثورة التصحيح، عُين الشاذلي رئيسًا للأركان بالقوات المسلحة المصرية، باعتبار أنه لم يكن يدين بالولاء إلا لشرف الجندية، فلم يكن محسوبًا على أي من المتصارعين على الساحة السياسية المصرية آنذاك.
دوره في حرب أكتوبر
وفي يوم 6 أكتوبر 1973 في الساعة 14:05 (الثانية وخمس دقائق ظهرًا) شن الجيشان المصري والسوري هجومًا كاسحًا على إسرائيل، بطول الجبهتين، ونفذ الجيش المصري خطة “المآذن العالية” التي وضعها الفريق الشاذلي بنجاح غير متوقع. لدرجة أن الشاذلي يقول في كتابه “حرب أكتوبر”: “في أول 24 ساعة قتال لم يصدر من القيادة العامة أي أمر لأي وحدة فرعية.. قواتنا كانت تؤدي مهامها بمنتهى الكفاءة والسهولة واليسر كأنها تؤدي طابور تدريب تكتيكي”.
وخلال ذلك، اكتشفت طائرة استطلاع أمريكية لم تستطع الدفاعات الجوية المصرية إسقاطها بسبب سرعتها التي بلغت ثلاث مرات سرعة الصوت وارتفاعها الشاهق، وجود ثغرة بين الجيش الثالث في السويس والجيش الثاني في الإسماعيلية، وقام الأمريكان بإبلاغ إسرائيل ونجح أرئيل شارون، قائد إحدى الفرق المدرعة الإسرائيلية، بالعبور إلى غرب القناة من الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث، عند منطقة الدفرسوار القريبة من البحيرات المرّة بقوة محدودة ليلة 16 أكتوبر، وصلت إلى 6 ألوية مدرعة، و3 ألوية مشاة.
وفي يوم 17 أكتوبر، طالب الفريق الشاذلي بسحب عدد 4 ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب؛ ليزيد من الخناق على القوات الإسرائيلية الموجودة في الغرب، والقضاء عليها نهائيًّا، علماً بأن القوات الإسرائيلية يوم 17 أكتوبر كانت لواء مدرع ولواء مظلات فقط، وتوقع الفريق الشاذلي عبور لواء إسرائيلي إضافي ليلا، لذا فطالب بسحب عدد 4 ألوية مدرعة تحسبا لذلك، واكتفى بأن تقاتل القوات المصرية تحتمظلة الدفاع الجوي وبمساعدة الطيران المصري وهو ما يضمن التفوق المصري الكاسح وسيتم تدمير الثغرة تدميرا نهائيا.
هذه الخطة تعتبر من وجهة نظر الشاذلي تطبيقًا لمبدأ من مبادئ الحرب الحديثة، وهو “المناورة بالقوات”، علمًا بأن سحب هذه الألوية ما كان ليؤثر مطلقًا على أوضاع الفرق المشاة الخمس المتمركزة في الشرق.. لكن السادات وأحمد إسماعيل رفضا هذا الأمر بشدة، بدعوى أن الجنود المصريين لديهم عقدة نفسية من عملية الانسحاب للغرب منذ نكسة 1967، وبالتالي رفضا سحب أي قوات من الشرق للغرب، وهنا وصلت الأمور بينهما وبين الشاذلي إلى مرحلة الطلاق.
تسريحه من الجيش:
وفي 13 ديسمبر 1973م، وفي قمة عمله العسكري بعد حرب أكتوبر، تم تسريح الفريق الشاذلي من الجيش بواسطة الرئيس أنور السادات وتعيينه سفيراً لمصر في إنجلترا ثم البرتغال.. وكأن الله حفظه بذلك من التورط في معاهدة كامب ديفيد التي انتقدها بشدة عام 1978 وعارضها علانية، مما جعله يتخذ القرار بترك منصبه ويذهبإلى الجزائر كلاجئ سياسي.
في المنفى
استثمر الشاذلي فترة إقامته بالجزائر في كتابة مذكراته عن الحرب، والتي اتهم فيها السادات باتخاذ قرارات خاطئة رغماً عن جميع النصائح من المحيطين أثناء سير العمليات على الجبهة أدت إلى التسبب في الثغرة وتضليل الشعب بإخفاء حقيقة الثغرة وتدمير حائط الصواريخ وحصار الجيش الثالث لمدة فاقت الثلاثة أشهر، حيث كانت تصلهم الإمدادات تحت إشراف الجيش الإسرائيلي، مقابل تنازلات سرية.
لم يقبل السادات بتمرد الشاذلي، فلفق له عدة قضايا سياسية وجنائية، واستصدر حكما بسجنه ووضعه على قوائم ترقب الوصول، وهي قضية نفذ الشاذلي حكمها فعليًا في عهد مبارك الذي واصل اضطهاده بشكل سافر، وصل إلى درجة تزوير الصور الخاصة بغرفة عمليات حرب أكتوبر، والتي وضع مبارك صورته فيها مكان صورة الشاذلي نفسه!

عاد الشاذلي لمصر عام 1992، بعد 14 عامًا قضاها في المنفى بالجزائر رغم تلقيه ضمانات متكررة بعدم التعرض له.. لكن قُبض عليه فور وصوله مطار القاهرة وصودرت جميع الأوسمة والنياشين، وأجبر على قضاء مدة الحكم عليه بالسجن دون محاكمة، رغم أن القانون المصري ينص على أن الأحكام القضائية الصادرة غيابياً لابد أن تخضع لمحاكمة أخرى جديدة.
خرج الشاذلي من محبسه ليعود إلى مسقط رأسه في حياة أشبه بالحصار، لم يكن يظهر خلالها في الإعلام المصري، ولم يكن لأحد أن يشعر بوجوده لولا بعض الحلقات المسجلة مع القنوات الدوليةلشهادته على الأحداث، والمؤتمرات التي كان يشارك فيها حاضرا أو متكلما في ذكرى الحرب كل عام، ليستأثر مبارك بلقب بطل الحرب، بينما بطلهاوأبرز أيقوناتهايعيش في إقامة جبرية بمنزله.
وفاتـه:
تُوفي الشاذلي يوم الخميس 10 فبراير 2011 م، في خضم ثورة يناير، على سريره بالمركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة، عن عمر بلغ 88 عامًا قضاها في خدمة وطنه بكفاءة وأمانة، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض.. وقد شُيّع الشاذلي في جنازة عسكرية وشعبية مهيبة بعد صلاة الجمعة، في نفس اليوم الذي أُعلن فيه تنحي الرئيس حسني مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية.
تكريمه
أعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة نجمة سيناء لأسرة الفريق الشاذلي بعد تنحي المخلوع حسني مبارك بأسبوعين، ومنح الرئيس محمد مرسى في3 اكتوبر 2012 اسم سعد الدين الشاذلي قلادة النيل العظمى، وسلمها لأسرته بنفسه، تكريمًا لدوره في حرب أكتوبر.. لتوثق الكاميرات بكاء زوجته على تكريم وصله أخيرا بيد رئيس مدني، بينما حرمه أقرانه العسكريون منها.